السبت، 31 يوليو 2010

أبو الفتح الإسكندري غريب يبحث عن وطن

لالنسق الدرامي لأبي الفتح الإسكندري
مفتاح لقراءة مقامات الهمذاني
د.أحمد يحيي علي، مدرس الأدب والنقد، كلية الألسن، جامعة عين شمس
- مدخل
تحتاج عملية قراءة التراث إلى نوعين من الخبرة يرتبطان بحركة الزمن: الأول: دراية بطبيعة المرحلة الزمنية التي أفرزت النص محل الاهتمام، والثاني: قراءة واعية للحظة الحاضرة المعيشة وما تتشكل منه؛ مبعث ذلك ما تفرضه رحلة الزمن من الماضى إلى الحاضر من مقارنة تجد فيها الذات نفسها بين ما كان وما هو كائن: أوجه الاتفاق (الطابع التكراري القائم على قدر من التشابه دون التماثل التام بين مفردات التجربة الإنسانية عمومًا)، وأوجه الاختلاف بحكم منطق التغير الذي هو سمة الحياة المعيشة دائمًا..وتأتى هذه المقارنة تحت عنوان: إطار يحتويها هو: رؤية الذات لنفسها في مرآة ماضيها..
وتعتمد هذه القاراءة ذات الطابع الكلاسيكى على الرحلة إلى الجذور بحثًا عن بعض الملامح التي تتشكل منها هذه الهيئة التي نسعي إلى النظر إليها..وبديع الزمان الهمذاني (أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيي بن سعيد/358هـ - 398هـ) واحد من هؤلاء الذين قدموا إلى المكتبة السردية العربية ما صاروا يعرفون به في فضاء القراءة؛ حتى ليمكن القول: إن هناك تلازمًا يصل إلى درجة التماهي بين الفاعل (الكاتب/المصنف) ومفعوله (العمل/المصنف) فإذا ذكر أحدهما ذكر الآخر؛ فإذا جاء الحديث عن المقامات فإنه على الفور يستدعي الرائد الأول لها في تراثنا (بديع الزمان)(1) ومن بعده الحريري..وبالتوازي مع هذا الاستدعاء تصبح الشخصية بمثابة مفتاح يتيح للقارئ الولوج إلى السياق الثقافي بأبعاده الزمانية والمكانية التي أنتجت هذا العمل؛ بوصف المنتج الأدبي - بصفة عامة - عينًا ذات طبيعة خاصة ننظر بها إلى المرحلة التي ظهرت فيها، والمقامات وصاحبها الهمذاني يحيلان إلى القرن الرابع الهجري الذي يمثل مرحلة النضج بالنسبة إلى البناء الحضاري العربي والإسلامي الذي صار يعطي بشكل لافت إلى الرصيد المعرفي الإنساني في عدد من مجالات المعرفة دون الوقوف العنصري أمام جنسية هذا العاطى، هل هو عربي أم أعجمي؟ المهم أن الكل في النهاية يؤدي دوره الحضاري المؤثر تحت هذا اللواء المنطلق من مرجعية واحدة ممثلة في الدين (الإسلام) الذي يحتضن الجميع..
- داخل النص وخارج النص في المقامات
ومقامات بديع الزمان هي بنت هذا السياق، ومقاربتها تقتضي الوقوف على بعض ملامح هذا الرحم الذي احتواها، في إطار ثنائية لا غنى عنها بالنسبة إلى القراءة التي تتغيا قدرًا من الوعي هي (داخل النص/خارج النص)؛ فصاحب المقامات من أصول عربية، لكن مولده كان في همذان، وكثير من فترات حياته قضاها في خراسان في مجالسة الملوك والأمراء، يظهر ما عنده من براعة في قرض الشعر وصياغة النثر(2)؛ ولاشك في أن شخصية كهذه تعد نموذجًا ذا طابع بلاغي شديد الاختزال للشخصية العربية عمومًا منذ العصر الجاهلي التي أقامت بناء حضارتها على الكلمة الجميلة التي تترك صداها الإمتاعي والنفعي ينطلق ويؤثر في فضاء الاستقبال على امتداده..ومن الواضح أن هذه الشخصية في أطوار نموها لم تتوقف عند العرق العربي وحده وهي تقيم دعائم هذا البناء، بل وفد إليها مدخلات من أعراق أخري يمكن جمعها جميعًا تحت عنوان واحد هو (الأعجمي)؛ فصار هذا البناء يمضي في حركته عبر الزمن بفضل قوة الدفع التي يستمدها من عطاء طرفي ثنائية (العربي والأعجمي)..يترابط أفرادها برباط اللغة العربية التي ينتج بها الجميع، والدين..
ومن مجالسة الوزراء والملوك التي تعد مرآة كاشفة عن صلة وثيقة تجمع بين السلطة بوجهها السياسى، والفن تتحرك الذهنية القارئة باتجاه الداخل حيث تتحول هذه المجالسة إلى مقامة؛ فبتفعيل ثنائية (خارج النص/داخل النص) يتضح أن الذات الأدبية في علاقتها بهذه بالسلطة على المستوى السياسي قد أحالت هذا الحال إلى مرادف له على مستوى الفن اسمه المقامة التي تعني: المجلس يجتمع فيه الناس، وتلقي فيه الخطب، وتطورت إلى سرد القصص على ألسنة أقوام يسمونهم "رواة" سواء أكانوا حقيقة أم من نسج الخيال(3).. وبموازاة هذه البنية المكانية (مجالس الوزراء والملوك/المقامات) تتفكك هذه الشخصية المرجعية: بديع الزمان الهمذاني إلى كيانين من صنع الخيال هما: أبو الفتح الإسكندري (البطل في مقامات بديع) وعيسى بن هشام، ومنوط به القيام بدورين: المشاركة في صناعة الحدث إلى جوار البطل، مع القيام بدور الراوي (العين) التي يطل منها المتلقي على ما غاب عنه رؤيته في الزمان والمكان..والاثنان في النهاية ينضويان تحت ثنائية تحتضنهما هي (القصة، والخطاب)، وهذه الثنائية التي تم تحديدها بالإفادة من معجم مصطلحات علم السرد الحديث يمكن أن تظهر أمام مجتمع القراءة بأكثر من وجه مثل: (الفاعل القائل والفاعل الصانع)، أي (الراوي والبطل)، و(الكلمة والفعل) الكلمة التي تحظى بقابلية الاستمرار، والفعل ذو الطبيعة المنتهية..
- التعريف الدرامي للشخصية
وتأتي وضعية الثبات هذه التي ينطوي عليها الدال "مقامة" منسجمة مع الهيئة الغالبة على فعل التلقي؛ فالثابت المكاني يقابله حركة على المستوى الذهني يؤديها كل من الراوي والمتلقي معًا..وفي فضاء هذا الثابت تأتي الحركة ملازمة لهذه الشخصية "أبو الفتح الإسكندري"، وهو كنية (كناية) تعكس - بدجة كبيرة - هوية الذات الجمعية العربية في مسارها التاريخي، التي كانت تتحرك في الماضي في شكل ثلاثي الأبعاد: داخلى: حيث مكة والبيت الحرام تأكيدًا على قيمة المعتقد وللبيع والتجارة وتوثيق عرى القربي بين أفراد البيت العربي الواحد، خارجى: اتخذ شقين: في الشتاء إلى اليمن..وفي الصيف إلى بلاد الشام، وهي رحلة صافحت فيها هذه الذات آخرًا بينها وبينه مساحات اختلاف في الثقافة وفي المعتقد..لكن هذا الشكل الثلاثي قد صادف تغييرًا بعد أن لحق بمبني هذه الشخصية في مسيرها عبر الزمن الدين (الإسلام) فأخذت لقاءاتها مع غيرها من الجماعات اتجاهات عدة: شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا، وكانت نقطة الانطلاق بالنسبة إليها هذا الوسط ذا الصبغة الدينية (الكعبة/البيت الحرام)؛ فصار هذا التركيب "أبو الفتح" كناية عن البعد الجديد الذي اكتسبته حركة الشخصية العربية لأجل إخراج معتقدها من بيئته المحلية الضيقة (شبه الجزيرة العربية) إلى العالمية ليكون هذا التركيب النسبي "الإسكندري" انعكاسًا لهذه الصفة (العالمية) المميزة لطبيعة هذا المعتقد، وفي الوقت نفسه تأكيدًا على قدرته توظيف هذا السلوك القائم على الحركة (الرحلة) الذي ميز هذه الذات منذ القدم..
وبالنظر إلى داخل النص نجد أن البطل أبا الفتح يقدم بنفسه تعريفًا لهويته يعد بمثابة تفسير درامي لهذه الذات الجمعية (العربية) عمومًا؛ ففي المقامة العراقية نقف عند منطوقه: "حدثنا عيسى بن هشام، قال: طفت الآفاق حتى بلغت العراق..فبينما أنا على الشط إذ عنَّ لي فتى..يسأل الناس ويحرمونه، فأعجبتني فصاحته، فقمت إليه أسأله...فقال: أنا عبسي الأصل إسكندري الدار"(4)..إن هذه الجملة الثقافية "..عبسى الأصل، إسكندري الدار" تقدم لصوت يتجاوز حدود عالم الفن إلى خارجه..ويتجاوز حدود المرحلة الزمنية المفترض أن الأحداث تقع خلالها إلى ما هو أكبر منها؛ إن ياء النسب هاهنا تضعنا أمام ثنائية (الإنسان والمكان) وثنائية (الإنسان والزمان)، في الأولى الذات العربية وحياة القبيلة داخل شبه جزيرة العرب "عبسى الأصل"..وفي الثانية تظهر أمامنا هذه الذات في طور أكثر نضجًا حيث تجاوزت هذه المرحلة القبلية في حياتها متحولة إلى مجتمع المدينة، ومنه إلى مجتمع الدولة مترامية الأطراف التي تجمعها وشائج قربي واحدة أقوى بكثير من السلطة على المستوى السياسي، تتمثل في وحدة الثقافة والدين "إسكندري الدار"؛ إن الإسكندرية المقصودة - كما يقول شارح المقامات ومحققها: محمد محى الدين عبدالحميد - موقع في بلاد الأندلس(5)؛ إذًا فإن ياء النسب الأولى داخل هذه الجملة تجعلنا نولي وجهنا شطر الشرق حيث شبه الجزيرة التي كانت بمثابة الوعاء الأشهر الذي احتضن مجتمع القبيلة في حياة هذه الشخصية، أما ياء النسب الثانية فترحل بنا ناحية الغرب "الأندلس" التي تعكس نشاط العرب الفاتحين في طور المدينة والدولة..وبين الشرق والغرب تتحرك هذه الشخصية الجمعية زمانيًا ومكانيًا في رحلة لا تعرف الثبات، لكنها تعلن دائمًا عن وفائها للجذور التي منها خرجت، يبدو ذلك في هذا التعبير الأثير "عبسي الأصل" الذي يقع في منتصف المسافة بين المكان الذي شهد ميلاد هذا المنطوق "العراق" والدار محل الإقامة "الإسكندرية"؛ هو إذًا مقول يضعنا أمام بورتريه فيه شبه الجزيرة وإلى الشمال منها العراق وإلى الشمال الغربي تقع بلاد الأندلس التي تمثل بالنسبة إلى الاثنين معًا غربًا يوجد بإزاء هذا الشرق، هي شخصية لم تعرف المحلية في الفكر ولا في السلوك، الحركة الرأسية شمالاً وجنوبًا قبل الإسلام (الشام واليمن) ثم الحركة الأفقية شرقًا وغربًا بعد ذلك (بلاد فارس والعراق، وشمال إفريقيا والأندلس) تمثل انعكاسًا لطبيعتها، وقد ألقي ذلك بظلال واضحة على المنجزات الأدبية والفكرية - بصفة عامة - التي تركتها زادًا معرفيًا للآتي بعد..
- الوحدة التركيبية في بناء المقامات
بالنظر إلى البناء التشكيلى للمقامات نجد أنها تمثل نموذجًا لمنهجية التأليف التي يقوم عليها جل المصنفات التراثية، وهي منهجية لا تقوم على رباط صارم يعتمد منطق السببية، في إطار ما يعرف بـ "الوحدة العضوية" الذي اشتهر منذ كتاب "نقد الشعر" عند أرسطو..لكنها تقوم على رباط من نوع آخر يمكن نعته بالرباط التجاوري؛ فالجزء يمكن قراءته بوصفه بنية مستقلة أشبه بجملة خبرية تتشكل من مبتدأ وخبر، لكنه في الوقت نفسه يؤدى دوره بمعونة الأجزاء الأخري السابق منها واللاحق ليقدم بناءً كليًا للنص ودلالالة عامة تتعلق به(6)، هذا البناء - بالنسبة إلى المقامات تحديدًا - تترابط أجزاؤه بفضل وحدة ذات مستويين: الرواية ممثلة في السارد الرئيس الحاضر في كل المقامات "عيسى بن هشام" والمستوى الثاني: الذي يقف راءه فاعل محوري هو البطل في جميع المقامات "أبو الفتح الإسكندري"..وتعد هذه المنهجية المسماة بـ"الوحدة التركيبية" بمثابة المعادل النثري لقصيدة الشعر العربية القديمة التي عرف فيها ما يسمي بـ "البيت وحدة القصيد"؛ فالذات المبدعة ومعها المتلقية ترحل بين أغراض وموضوعات ومواقف نفسية سمتها التنوع، لكن الكل في النهاية ينضوى تحت صوت واحد..يأتى هذا النمط الرحلى في التأليف بموازاة نمط حياة الشخصية العربية - عمومًا - التي كانت تتنقل في حركة ذات طابع عروضي تقوم على رحلة ثم سكون يعني استقرارًا..ومن الواضح أن هذا السلوك قد ظل مهيمنمًا على عمليات التصنيف لفترات زمنية طويلة؛ فها هو ذا أبو الفتح الإسكندري الذي تمت صناعته في العصر العباسي قد عرِّف دراميًا بأنه عبسي الأصل إسكندري الدار، هذا التعريف ذو الطابع الحركى يأتى منسجمًا مع البناء التأليفي للمقامات؛ فهي عبارة عن مجموعة من القصص الصغيرة من حيث الحجم، لكل قصة (مقامة) عنوانها الخاص؛ ومن ثم يمكن قراءتها بوصفها عالمًا فنيًا له قدر من الاستقلالية عن غيره..لكن هذه العوالم جميعًا تتراط فيما بينها بفضل وحدة الراوي والبطل..والملاحظ في جل هذه المقامات أنها تحمل أسماء مدن؛ فالبطل والراوي لا يعرفان ثباتًا مكانيًا، إنما نسق الرحلة هو السلطة المهيمنة على أدوارهما، يلتقيان مصادفة - في الغالب - يستمع كل منهما إلى مقول الآخر..تنكشف هوية البطل "أبو الفتح" ويكون ذلك بمثابة لحظة التنوير داخل المقامة..
- دراما الثابت والمتحرك
واللافت أن هذه الحركة تأتى من قلب الثابت؛ فالمقامة دال يحيل الى السكون، أي القرار في المكان، هذا القرار يأتى بعد رحلة..والقرار عند بديع الزمان ومساعديه: عيسى وأبو الفتح يعني حكاية تمثل في مجملها خاتمة هذه الرحلة، وتعد بمثابة حكم يصدره هذا البطل، ويتولى روايه مهمة نقله، يتوسل - في الغالب - بحيلة واحدة لها سمة التكرار - في الغالب - هي الكدية؛ فنحن أمام ذات يدها تبدو سفلى "مكدية" أمام يد عليا بحاجة ماسة دائمة إليها..
فما يعزز ترابط المقامات في بنية تأليفية واحدة إلى جانب وحدة السارد ووحدة الشخصية هو مشهد درامي له صفة الثبات من حيث المضمون والمغزي؛ فنحن أمام ذات "أبو الفتح" توظف مخزونًا أدبيًا وفكريًا تمتلكه ومهارة في عرض هذا المخزون في لغة جميلة لها جاذبية عند المتلقي في مقابل حصولها على منافع مادية عاجلة (نقود قليلة/طعام) سرعان ما تنتهي؛ لتبدأ رحلة جديدة، ومعها مفردات المشهد ذاته..
إن خطاب الحكاية المنقول إلينا بصوت عيسى بن هشام يقدم لمجتمع القراءة فاعلين مرسلين:
ـ الأول: البطل أبو الفتح: مرسل فكر/ثقافة/أدب..
ـ الثاني: مجتمع يتلقي رسالة هذا الأول ويقابلها بمال وطعام..
وبين الطرفين يتشكل الموقف الدرامي للمقامة، الذي يتغلف بغلاف ثابت هو الكدية (الوسيلة/الحيلة) التي يلجأ إليها الأول في سبيل نيل غاية يحصل عليها من الثاني، أما الراوي فهو شاهد ناقل لهذا الحال..والمقامات من أحد وجوهها تعد شكلاً من أشكال السيرة الذاتية المشكلة فنًا لتعبر عن جانب من شخصية بديع الزمان على المستوى الواقعي؛ فالسلوك الدرامي لأبي الفتح يتحرك من الفن عبر فعل "الكدية" إلى الواقع حيث الجماعة التي يبث إليها ما عنده ليعكس حال الهمذاني في مقاربته مجالس الوزراء والأمراء يرسل إليهم ما عنده من مخزون أدبي يحتضن الشعر والنثر معًا..لكن هذه السلطة على المستوى السياسى تتخذ لها في عالم الفن "المقامات" شكلاً آخر لا يقف عند هذا الحد الضيق، يمكن تسميته بـ"سلطة النسق" التي تدفع أبا الفتح إلى اعتماد هذا السلوك؛ فبراعة هذا البطل الشعرية والنثرية تحتاج إلى مبرر للظهور، يبدو في السياق المحيط الذي يشغل موقع الطرف الثاني في ثنائية (الكلمة والمال) .. إن هذه البنية الدرامية ذات الطابع المتكرر (مشهد الكدية) في المقامات تناقش في فضاء دلالتها ما يمكن تسميته بـ(إشكالية القيمة) فصوت الكلمة وصوت المال يلتقيان في سياقات سردية تقدم حال اللقاء بين الاثنين على حال الصراع، ويبدو أن هذا الأول يعد بمثابة نتيجة قد أفضى إليها واقع متغير(7) لم تعد الكلمة فيه في المقدمة بالنسبة إلى احتياجات هذا المجتمع، هي موجودة لكن ترتيبها في سلم الأولويات قد تراجع، وتراجع معه حضور أصحابها في ظل مجتمع يعيد من وقت إلى آخر صياغة أنساقه التي تعكس هويته في ظل مرحلته الزمنية الراهنة..
الشعر والنثر مطلوبان في ظل مجتمع ما قبل الإسلام القبلي ومن بعده صدر الإسلام والعهد الأموي حيث ما زال للعنصر العربي صاحب الكلمة المبدعة التي جاءت الذات الإلهية بالنص المقدس (القرآن الكريم) لتتحدى براعته فيها الحضور البارز في صفحة حياة هذه الحضارة، أما العصر العباسي وما شهده من تغيرات فقد أعلن بشكل رسمي عن وجود عناصر أخري غير العربية تعمل وتؤدي دورها داخل السياق الحضاري وفي مقدمتها العنصر الفارسي، الذي نال مكانة عالية على مدى فترات زمنية طويلة من هذا العصر وما زالت مجهودات عدد كبير من أفراده على اختلاف الحقول المعرفية التي تنتمي إليها تطرح نفسها في فضاء التلقي؛ ومن ثم أصبح الشعر والنثر العربي – ويمثلهما داخل نص المقامات أبو الفتح – قيمتين، لكن ليس في المقدمة على الإطلاق، كما كان الحال قبل ذلك..
إذًا فإن على الذات المثقفة أن تقرأ بشكل واعٍ مفردات السياق المحيط بها جيدًا وتراقب ما يطرأ عليها من تغير وأن تتحرك تبعًا لذلك بما ينسجم ومنطق الزمن، من هنا تكمن المفارقة التي يحتضنها البناء الدرامي للمقامات؛ ففي الوقت الذي لا يثبت فيه البطل على حال مكاني، إنما تراه العين (عيسى بن هشام/ المتلقي خارج النص) يتنقل من مكان إلى آخر، فإنه في الوقت ذاته يطرح بسلوكه أزمة هي (الجمود/ الثبات)؛ لقد طرأ على الشخصية العربية على المستوى الجمعي تغيرات عدة في أطوار نموها منذ مجتمع القبيلة الجاهلي وما أتى بعده.. ومن ثم فقد انضاف إلى مبني هذ الذات إضافات مختلفة بحكم انفتاحها الكبير، خصوصا في عهد بني العباس على غيرها من الجماعات؛ لذا كان لزامًا على أبي الفتح – وهو واحد من أفراد هذا الكيان – أن يراعي ذلك، يطور نفسه بما يلائم هذه الحركة في الزمن، لكنه تجمد عند طور بعينه، كان للكلمة في قصيدة الشعر أو في الخطبة خطرها الشديد في توجيه سلوك الفرد والجماعة؛ فكانت النتيجة شعورًا بالغربة والانفصال عن السياق الجمعي في ثوبه الجديد؛ فتحولت هذه الشخصية المثقفة من أديبة عالمة صاحبة موهبة في صناعة اللغة إلى مكدية (مهمشة) تستجدي ساكني منطقة المتن في صفحة المجتمع الجديد لتحصل على قليل مما عندهم..
إن دراما أبي الفتح المتحركة بين طرفي ثنائية (الثابت والمتحرك) تكشف لنا عن طابع وسطي يعكس وجهًا مأساويا في حياة ذات، يمكن النظر إليه في لوحة شديدة الاختزال، تعرضها شخصية مبدعة هي بديع الزمان، تنبئ بها عن حال منحني حضاري لجماعة في الأسرة الإنسانية هي العربية تحديدًا قد أوشك أن يسير في الاتجاه السلبي، اتجاه الهبوط، بعد أن وصل إلى ذروته، فلا شك في أن لكل بناء حضاري اتجاهين: صاعد وهابط، والنسق الدرامي لأبي الفتح يضع الحضارة القائمة على الكلمة وحدها على المحك؛ هل يكفي هذا الرصيد وحده لقيادة الجماعة الإنسانية عبر الزمن ؟.. إن بديع الزمان يقدم من خلال تلك الثنائية (الراوي والبطل) حكمًا مفاده: (الكلمة مطلوبة ولكن..) هذا الاستدراك والمساحة النصية الفارغة الآتية بعده تعطي لفضاء التداول حظه في ملء ما يراه مناسبًا ومهيمنًا في الوقت نفسه على معطيات اللحظة الراهنة المعيشة..
إذن يصير هذا المشهد المتكرر في المقامات "الكدية" بمثابة توكيد لفظي (درامي) يبرهن به بديع الزمان على رؤية فكرية أراد طرحها عبر عالمه الفني في إطار ثنائية تنم عن علاقة متوترة هي (المثقف والواقع) يمكن النظر إليها بوصفها إطارًا واقعيا يحتضن أخري تشكلت فنًا هي (أبو الفتح الإسكندري وجماعته) وفي الطرف الثاني منها يقف عيسى بن هشام موقف الراوي (الشاهد) والمشارك في صناعة الحدث، المتعاطف في الوقت ذاته مع حال صاحب الطرف الأول.. ولا شك في أن هذا الموقف الوجداني إنما ينطلق باتجاه من نراه ضحية أو ضعيفا؛ وهو ما يعني أزمة يحاول البناء الحكائي الذي تتضمنه المقامات النهوض بمهمة نقدها والتعليق عليها:
- نماذج تطبيقية
" المقامة الأزاذية:
حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت ببغذاذ وقت الأزاذ.. فسرت غير بعيد إلى رجل قد أخذ أصناف الفواكه وصنفها، وجمع أنواع الرطب وصففها.. أخذت عيناي رجلاً قد لف رأسه ببرقع حياءً، ونصب جسده، وبسط يده، واحتضن عياله.. وهو يقول بصوت يدفع الضعف في صدره..:
- ويلي على كفين من سويق ••• أو شحمة تضرب بالدقيـق
- أو قصعة تملأ من خرديق ••• يفثأ عنا سطوات الريــق
... قال عيسى بن هشام: فأخذت من الكيس أخذة ونلته إياهان فقال:
- يا من عناني بجميل بـره ••• أفضى إلى الله بحسن سره
- واستحفظ الله جميل ستره ••• إن كان لا طاقة لي بشكـره
... قال عيسى بن هشام: فقلت له : إن في الكيس فضلا، فابرز لي عن باطنك أخرج إليك عن آخره، فأماط لثامه، فإذا والله شيخنا أبو الفتح الإسكندري..." (8)
في التشكيل الحكائي للمقامات – بصفة عامة - ثلاثة أصوات:
- الأول: هذا الراوي الاعتباري صاحب التركيب "حدثنا" في بداية نص المقامة، وهو حلقة وصل رابطة بين خارج النص حيث سياق التلقي، وداخلة حيث عالم الفن المعروض (9)
- الثاني: صوت عيسى بن هشام، الذي يتحرك في حضوره بين ضمير المتكلم، واستخدام ضمير الغائب عندما يترك المجال لأبي الفتح للظهور المباشر بصوته..
- الثالث: أبو الفتح الإسكندري الذي يقدم لحاله بطريقته الخاصة..
- الرابع: ينضاف إلى هذه الثلاثة صوت من خارج النص هو لهذه الذات القارئة التي عليها أن تتابع وتحكم.. وفي حركتها الذهنية ستجد أنها أمام عالم سيري، تقدم فيه إحدى الشخصيات جانبا من تجربتها التي احتضنها زمن ماض، هذه الشخصية هي عيسى بن هشام، الذي يتخذ من الرحلة عبر المكان وسيلة لإدراك غايات تكشف عن واقع السياق الذي ينتمي إليه..وبموازاة رحلته تأتي الشخصية الأزمة "أبو الفتح" لتنجز عبر المكان رحلة بحثا عن غاية محددة هي المال، وتولد الدراما في فضاء المكان الذي يجمع الاثنين، ونموذجه في هذا الشاهد المدينة "بغداد".. فعيسى في نشاطه يريد (التجارة/البيع/الشراء) وأبو الفتح يقصد شيئا آخر، منظور رؤية عيسى يتعامل مع ما يباع ويشتري وفق منطق مادي محض، وأبو الفتح يسعي جاهدا في ظل معطيات المجتمع الجديد إلى أن يحيل مخزونه المعرفي بضاعةً ذات قيمة يمكن – وفقًا لظاهر القراءة – أن ينطبق عليها القانون نفسه، لكن الذهنية الحاكمة لهذه النوعية من المجتمعات تضع حدودًا بين هذا وذاك.. إن مجتمع السوق يحتاج إلى جودة الكلمة في سبيل الترويج لمنتجه، الكلمة وسيلة لأجل إدراك غاية، لكنها ليست في جوهرها – طبقا للمعطيات المتغيرة – سلعة يمكن أن تخضع للقانون نفسه.. أبو الفتح يريدها بضاعة، والمجتمع ممثلا في عيسى يتعامل معها بمنظور آخر، هذا هو ذروة اللقاء الجامع بين الاثنين؛ فكانت أولى أمارات النهاية عطاءً على سبيل الصدقة "إن في الكيس فضلا"، إن هذا الوعاء الحاضن للمال "الكيس" به عمدة، وبه فضل، أما العمدة فموجه بما ينسجم ونمط حياة هذا المجتمع الاستهلاكي.. وأما الفضل (القليل) فللكلمة المبدعة التي تبثها هذه الذات "أبو الفتح" ..
إننا أمام مجتمع يعيد ترتيب قائمة أولوياته في إطار ثنائية (العمدة والفضل) أو (الرئيس والثانوي) أو (المتن والهامش).. ولم يجد أبو الفتح نفسه في ظل هذا الحراك إلا في موقع الطرف الثاني من الثنائية بحكم تعارض منظور الرؤية بينه وبين من سكنوا الطرف الأول.. قد تنطوي نظرته على ذات ساخرة، تعطي ما تراه قابلا للبقاء (الكلمة المبدعة) لسياق لا يملك أن يعطي إلا الفاني الذي سرعان ما ينتهي (المال/الطعام)، لكن هذه النظرة محل مساءلة – أيضًا – فما ترسله لا يعدو إلا أن يكون أشبه بطلل يعكس ما كان قائما في الماضي، والذات الإنسانية التي تتحرك في الزمن دائما باتجاه الأمام لا يمكن أن تعيش حياتها بوجه واحد كلاسيكي الطابع، هو الطلل الباكي إذًا ما يعكسه الحضور الدرامي لأبي الفتح؛ فقيمة الماضي على مستوى الشكل والدلالة لا تعني الوقوف عنده وحده واستخدام الآليات نفسها التي كان يستخدمها أهله؛ فما كان يعلق على أستار الكعبة لقيمته البلاغية حتى لكأنه من المقدسات التي يجب الخضوع أمامها إجلالا وتقديرا.. وما كان عطية تؤخذ من خليفة أو أمير لقاء قصيدة تلقي لها خطرها في مدح أو غيره صار في مجتمع متغير لا يساوي إلا فضلا يتم إخراجه بعد قضاء ما تراه الذات بنت لحظتها ضروريا أولا، هكذا يعبر ترتيب المشهد الدرامي في المقامة الأزاذية عند بديع الزمان، المتسولون أمثال أبي الفتح لهم عفو المال، أما أصله فلأشياء أخر يتوجه إليها بداية..
" المقامة الجرجانية:
حدثنا عيسى بن هشام قال: بينا نحن بجرجان، في مجمع لنا نتحدث وما فينا إلا منا، إذ وقف علينا رجل ليس بالطويل المتمدد ولا القصير المتردد.. فافتتح الكلام بالسلام وتحية الإسلام، فولانا جميلا وأوليناه جزيلا، فقال يا قوم: إني امرؤ من أهل الإسكندرية، من الثغور الأموية، نمتني سليم ورحبت بي عبس، جبت الآفاق...
- وفينا مقامات حسان وجوههم ••• وأنـديـة ينتابـها القـول والفعـل
- على مكثريهم رزق من يعتريهم ••• وعنـد المقليـن السـماحـة والبـذل
- وقد هبت بي إليكم ريح الاحتياج ••• فانظرو رحمكم الله لنقض من الأنقاض
... مهزول، هدته الحاجة وكدته الفاقة... جعل الله للخير عليكم دليلا، ولا جعل للشر إليكم سبيلا، قال عيسى بن هشام: فرقت والله له القلوب، واغرورقت للطف كلامه العيون، ونلناه ما تاح في ذلك الوقت، وأعرض عنا حامدًا لنا فتبعته، فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندري" (10) .
في هذا المونولوج الدرامي يظهر أمامنا أبو الفتح في صورة نمطية تتكرر في جل المقامات؛ ففي كل محلة يسافر إليها عيسى بن هشام تبدو هيئة أبي الفتح غير معلومة له؛ على الرغم من أنه يعتمد آلية ثابتة هي الاستجداء الذي يستثير في الآخرين تعاطفهم، لكن عيسى لا يتأكد من حقيقة شخصيته إلا في خاتمة الحكاية حيث يتحول حال الخفاء هذا إلى ظهور، ومبعث ذلك هو أن أبا الفتح في المقامات يمثل نموذجًا لفئة من البشر ليست فردا، إنما جماعة تتبع الحيلة ذاتها التي يعتمد عليها، هذه الفئة تعرض نفسها على السياق المحيط الذي يمثله عيسى بشكل متكرر؛ نظرًا لكونها إفرازًا أنتجه تفاعل الجماعة مع معطيات زمن متحول؛ فكانت هي إحدى نتائجه..
ومرد هذا الاختفاء ثبات الآلية التي يلجأ إليها بطل القامات في سبيل الحصول على غايته، ألا وهي توظيف اللغة الجميلة التي تترك أثرًا في نفس المستمع، هذا الثبات يعني أننا أمام تجربة تتكرر ومن ثم تقتضي الحذر؛ حتى لا ينكشف أمر صاحبها؛ خصوصًا إذا كان بين أفراد هذا السياق واحد مثل عيسى بن هشام، حضوره وسط هذا المتعدد المكاني يعني أن لهذا السياق وجهًا واحدًا بملامح محددة صار يعرفها جيدًا أبو الفتح الذي أضحى عالمًا مغلقًا على طور زمني لم يتجاوزه إلى ما بعده؛ وهو ما يجعله ومن على شاكلته رمزًا لصعاليك جدد، علاقتهم بجماعتهم لا تعتمد سلوكًا انتقاميا يقوم على منطق السلب والسرقة، كما كان يفعل آباؤهم في العصر الجاهلي أمثال: عروة بن الورد، السليك بن السلكة، وتأبط شرًا.. وغيرهم، لكنها علاقة تقوم على التوسل، قد يكون ذلك نوعًا من الذكاء الاجتماعي الذي يدرك صاحبه كيف يخاطب المكون النفسي والذهني عند الآخرين لصالحه، لكن ما يدركه من منافع يثبت أن هذا العالم يريد لهذه اللعبة أن تستمر، هو ذكاء متبادل إذًا؛ فما يحصل عليه أبو الفتح ليس بالقدر الذي يحقق له إشباعا يصل إلى درجة الاكتفاء "ونلناه ما تاح في ذلك الوقت" إن هذا يعني بقاء حالة النقص كما هي؛ فأبو الفتح يتألم ويبدع، والجماعة تستمع ولا تمنح العطاء الحلم، في دراما تقارب صنيع الفلاح الفصيح الذي ينتمي من حيث الظهور المفترض إلى العهد الفرعوني؛ فألم النقص ولد الفصاحة، والفصاحة كانت مبعثًا لمتعة لا تريدها سلطة السياق المتلقي أن تنقضي تمامًا، هكذا يكون للنسق الحاضن سطوته على المنتسبين إليه؛ فكل من أبي الفتح والسياق المحيط يمارس دورًا مؤثرًا في الآخر؛ فللكدية بلاغتها وللسياق غوايته؛ فهو يملك ما لا يستطيع الفرد الاستغناء عنه، لكن هذا الأخير يعطي بقَدَر لتبقي دراما الاحتياج مستمرة.. والفارق بين الحالين يبدو واضحا؛ فأبو الفتح بصنيعه يسعي لنيل ما يقيم أوده وإلا انتهت حياته، أما الطرف الآخر فيتلقي منه ما يري أنه ليس بحاجة إليه كثيرا، وليس أدل على ذلك من أنه يعطي من موقع المتعاطف وليس من موقع من ينتظر مقابلا.. ولا شك في أن بطل المقامات ما زال يطرح نفسه على فضاء الاستقبال على اختلاف أطره الزمانية والمكانية؛ فأزمة المثقف قد ألقت بظلالها على واحد مثل توفيق الحكيم في مسرحيته "الأيدي الناعمة" التي نجد فيها شبيها بأبي الفتح، هو هذا الذي تخصص في دراسة اللغة، فنال عن ذلك درجة علمية عليا (الدكتوراه)، لكن عكوفه على ذلك التخصص وحده كان يعني خصما من قيمته ومن حضوره المؤثر في مجتمع متحول ينتقل من مرحلة إلى أخري، وبالتلازم مع هذه الذات تظهر شخصية الأرستقراطي المتعلم، الذي ما زالت تستغرقه مفردات مرحلة زمنية قد انتهت؛ فلم يقرأ جيدا طبيعة العهد الجديد الذي ولجه مجتمعه.. هكذا تطرح الدراما في التراث "المقامات" وفي "الأيدي الناعمة" الأزمة في ثياب الجمود (الثبات)..
"المقامة القردية:
حدثنا عيسى بن هشام قال: بينا أنا بمدينة السلام قافلا من البلد الحرام.. إذ انتهيت إلى حلقة رجال مزدحمين يلوي الطرب أعناقهم، ويشق الضحك أشداقهم، فساقني الحرص إلى ما ساقهم حتى وقفت بمسمع صوت رجل دون مرأى وجهه لشدة الهجمة وفرط الزحمة، فإذا هو قراد يرقص قرده، ويضحك من عنده... فلما فرغ القراد من شغله وانتفض المجلس عن أهله، قمت وقد كساني الدهش حلته، ووقفت لأري صورته، فإذا هو والله أبو الفتح الإسكندري، فقلت: ما هذه الدناءة ويحك؟ فأنشأ يقول:
- الذنب للأيام لا لي ••• فاعتب على صرف الليالـي
- بالحمق أدركت المني ••• ورفلت في حلل الجـمـال" (11)
إن النسق الحكائي للمقامات غالبا ما يبدأ نشاطه بصوت عيسى بن هشام؛ الأمر الذي يجعل من البناء السردي لها بمثابة معادل فني لوظيفة الشاهد في النحو العربي الذي يلجأ إليه المنظر للتدليل على قاعدة معينة، وعيسى هو صوت سياق زمني يقدم بعض ملامحه من خلال شواهد تدل عليها، وأبو الفتح أحد هذه الشواهد؛ فهو بمثابة الوجه الفني لرؤية مصنف تراثي قرأ منطق عصره وحاول تشكيله على كيفية فسرتها بعض عمليات القراءة على أنها تعليمية، تطرح أمام المتلقي عددا من الصيغ والأساليب التي يمكن توظيفها في عمليات الاستهلاك اللغوي (12) لكن هذا المغزي التعليمي الظاهري يصعب اعتماده بوصفه المستهدف الوحيد من قصدية عملية التأليف؛ إن هذا النسق البنائي للمقامة الذي يقدم – في الغالب – صوت عيسى بن هشام على صوت أبي الفتح يعتمد آلية في القراءة والحكم تجعل من الآخر المغاير بمثابة مرآة يمكن من خلالها تحديد ملامح واضحة للذات؛ فهوية أبي الفتح تحددها طبيعة عيسى بن هشام وحضورها الدرامي الذي يتيح لها دائما البقاء في موقع نفسي وفكري مختلف عن أبي الفتح؛ ومن ثم فإن آلية التمييز بينهما تبدو أكثر سهولة؛ فكل منهما يمثل تجسيدا دراميا لطرف في ثنائية (شاهد الأزمة وصاحب الأزمة)؛ إن السيرة الذاتية التي يعكسها تواتر استخدام ضمير المتكلم من قبل عيسى تعبر بالدرجة الأولى عن تجربة مصاحبة لآخر، وليست تجربة ذاتية محضة؛ فعيسى في حقيقة الأمر لا يروي عن نفسه، إنما يروي عن آخر قد دخل فضاء حياته وظل قابعا في هذا الفضاء مدة من الزمن قد تشكلت على مستوى الدراما من خلال عدد المقامات التي يتضمنها مصنف الهمذاني، ولا شك في أن الفكرة التي ينطلق منها ما يسمي بـ(أدب المذكرات) و(أدب الشهادة) و(فن السيرة الذاتية) تتماثل – إلى حد كبير – مع سلوك الراوي في المقامات؛ فحديث الذات عن نفسها هو في حقيقته وعاء حاضن لأجزاء من حيوات آخرين شاركوها جانبا من تجاربها، لكن حضورهم في النهاية يخضع لمنظور رؤيتها هي، تماما كما هو الحال بالنسبة إلى عيسى مع أبي الفتح في المقامات؛ فتنوع هيئة هذا الراوي بين العلم واستخدام ضمير الغائب، والاكتفاء بالمشاهدة مع ترك فرصة مناسبة لظهور هذا البطل بصوته مباشرة يؤكد على جمعية تجربة الذات التي تتأمل تجاربها مع الآخر في لحظة فردية شديدة الخصوصية لا تعدو أن تكون محطة انطلاق للعودة من جديد إلى الجماعة ومباشرة العمل معها، ويبدو أن طائفة المتكلمين المعبر عنها باستخدام الضمير "نا" في التركيب "حدثنا" الذي يعد – في الغالب – مفتاح الدخول إلى كل مقامة هي انعكاس وتأكيد فني لهذه العودة.. ويبقي أن هوية كل من عيسى وأبي الفتح تكمن في وجود كل منهما في موقع شديد التميز عن الآخر..
وحضور عيسى في موقع المشاهد لما يفعله هذا القراد "أبو الفتح" يأتي انسجاما مع قصدية بديع الزمان في هذه المقامة تحديدًا التي يأتي الشعر في خاتمتها بلسان أبي الفتح ليكون قمة النضج في الصياغة اللغوية إزاء مشهد يجمع بين الحركة والثبات معًا، قراد يلاعب حيوانه ليضحك الناس، لكن داخل إطار مكاني ثابت، هي الكدية إذًا، لكنها هذه المرة بلسان الحال وليس بلسان المقال؛ فما فعله أبو الفتح وفق منظور رؤية السياق الذي يمثله عيسى يعد من الأفعال الدنية، إنه تنويع في استخدام الحيلة قد لجأ إليه هذا المكدي لأجل تحصيل ما يريد..
وتأتي أبيات الشعر في خاتمة هذا المشهد لتكون بمثابة حكمة عامة ترتفع فوق مفردات اللحظة الراهنة، وتسعي إلى أن تؤدي دورًا في إزالة بعض ما ترتب على هذا الحال الدني من آثار؛ لقد أراد أبو الفتح أن يرتفع بهذا المنطوق الذي يمثل الذروة في الاستخدام اللغوي أمام واحد ممن يمثلون هذا السياق "عيسى" الذي سينقل هذا الذي شاهده إلى غائب قد تمت الإشارة إليه لغة باستخدام الضمير "نا" في التركيب "حدثنا".. وبما أن هذا الراوي سيقص ما حدث فعلى هذه الحكمة الشعرية أن تعرض لحال هذا البطل بالطريقة التي ينشدها؛ فهو مفعول (ضحية) أما المسئول عن حاله المأساوي فهو هذا الفاعل الزمني الذي أبدله من حال إلى حال؛ فبعد أن كان من النخبة صار لزاما عليه أن ينزل إلى رتبة العامة والجهلاء ليحقق مأربا عاجلا سرعان ما سينتهي لتستمر الدراما في المقامات على الحال نفسه..
ويبدو أن أزمة أبي الفتح لا تكمن فقط في وضعية الثبات أمام معطيات واقع يتغير تبعا لحركة الزمن، ولكن في غياب الوعي بالمسئول الرئيس عن الأزمة؛ إن أبا الفتح هاهنا يقدم نموذجا سلبيا للذات التي لا تريد أن تتحمل نصيبها في المسئولية عن المأزق الذي وصلت إليه؛ لذا تصبح الإدانة المستمرة لآخر بعيد عنها عرضا لمرض يكمن في تعطيل فعل القراءة الواعي الذي يجب على الذات إنجازه إزاء داخلها حتى يتسني لها أن تبصر عيوبها..
ومن الواضح أن دور الشاهد الناقل الذي يقوم به عيسى بن هشام قد أملى عليه الوقوف عند حود معينة في علاقته بأبي الفتح؛ فرد فعله – في الغالب – تجاهه لا يتعدى حدود تقديم المعونة المادية له، وهذا السلوك من هذه الناحية تحديدا يعكس عمليات الفرز الاجتماعي التي تحصل بشكل مستمر نتيجة منطق التغير المصاحب لحركة الجماعة (13) فمن لا يستطيع التكيف مع المعطيات التي يفرضها هذا التغير سيتراجع دوره، وسوف تتقلص مساحة حضوره الواقعية؛ ومن ثم سيصبح عرضة لأن يكون مادة يتلقفها عالم آخر، يعيد تشكيلها وعرضها وفق رؤية خاصة، إنه عالم الفن..
"المقامة الوصية:
حدثنا عيسى بن هشام قال: لما جهز أبو الفتح الإسكندري ولده للتجارة، أقعده يوصيه فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم: يا بني إني وإن وثقت بمتانة عقلك وطهارة أصلك، فإني شفيق والشفيق سيئ الظن، ولست آمن عليك النفس وسلطانها والشهوة وشيطانها، فاستعن عليهما نهارك بالصوم وليلك بالنوم... وكما أخشى عليك ذاك، فلا آمن عليك لصين: أحدهما الكرم، واسم الآخر القرم.. إن الكرم أسرع في المال من السوس، وإن القرم أشأم من البسوس... المال لا تنفقن إلا من الربح، وعليك الخبز والملح... والحلو طعام من لا يبالي على أي جنبيه يقع... ثم كن مع الناس كلاعب الشطرنج، خذ كل ما معهم واحفظ كل ما معك، يا بني قد أسمعت وأبلغت... وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين" (14)
إن حياة الذات وغربتها داخل مجتمع المدينة تفرز – في الغالب – نوعين من البشر: مكد (محتال) يخدع الناس بمنطوقه اللغوي كي يحصل على بعض ما في أيديهم، والثاني أناني بحكم النزعة الفردية التي تميز حياة كثير من ساكني هذا المجتمع عمومًا، وبناء المقامات عند بديع الزمان يقدم الاثنين، الأول: الأب (أبو الفتح) والثاني: الابن، الذي من المتوقع ظهوره بوصفه نموذجا يمثل نتيجة طبيعية لسلوك الأول، المقامة تتنبأ بخروجه وتبشر به، ولا شك في أن الاثنين يمثلان أمراضا اجتماعية يتمخض عنها واقع الحياة الذي يكشف عنه الفن عند الهمذاني، هذا الواقع الذي يعيد تشكيل سلمه القيمي من وقت إلى آخر؛ فهذا البناء الظاهري (الضحية) لشخصية أبي الفتح يغطي وجها عميقا أكثر صدقا من خلال منطوقه في هذه المقامة التي لا يعدو وجود الابن فيها أن يكون حضورا متخيلا؛ ليكون حوار هذه الأنا "أبو الفتح" في جوهره مونولوجي الطابع، يظهر فيه الوجه الحقيقي لذات محتالة، يحكم سلوكها وسط الجماعة منطق المصلحة الفردية المحضة، أما عن بدايات هذا المنطوق ونهاياته التي تجعله يأخذ شكل الخطبة المنبرية، فليس إلا من باب الخطاب الدعائي الذي يهدف إلى التأثير والإقناع.. ولعل واقع المدينة ذا الطابع الاستهلاكي الرأسمالي يحفل بمثل هذه النوعية من الخطابات، التي تتخفي وراءها نماذج مطورة تعد امتدادا لأبي الفتح.. وثنائية (الأب والابن) تقدم لواقع معيب، وما هو متوقع أن ينجم عنه مستقبلا؛ فهذا المكدي الفقير أو الذي يتظاهر بذلك سيستحيل في الزمن الآتي إلى نموذج سلبي (الابن) يملك ولا يعطي المقابل الواجب.. وبالنظر إلى التحولات التي طرأت على البناء الاجتماعي المصري – على سبيل المثال – منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وما تلاها نجد أن هناك طبقة طفيلية بدأت تطفو على سطح الحياة، قرأت لصالحها الفردي مفردات واقعها جيدا وتمكنت من توظيفه، وكان ذلك على حساب طبقة برجوازية عريقة تعد في كل المجتمعات ضامنا ضروريا لاستقرار بنائها..
إن هذا الحوار أحادي الصوت داخل المقامة الوصية وما يحتضنه من رسائل يعد بمثابة قوانين نظرية تكشف عنها الدراما، أما عن الواقع وتصديقه لها، فقد قدم بإزائها آليات تنفيذ تخرج بها من حدود النص الفني إلى فضاء التداول الرحب على اختلاف بيئاته الزمانية والمكانية.. إن الوصية فعل يحاول رسم ملامح خاصة لمستقبل لم يأت بعد وفق رؤية وإرادة تنبع من الموصي، وأبو الفتح بأسفاره التي احتضنت تجربة ذات طابع تكراري قد أماط اللثام عن السياق المحيط، واستطاع أن يحدد هوية اللحظة الراهنة التي عاشها؛ فجاءت وصيته انعكاسا وفي الوقت ذاته نتاجا لأدائه ولقراءته لمفردات هذا السياق الذي تفاعل معه؛ ومن ثم فلابد للمستقبل أن يكون نتيجة منطقية لكل ذلك؛ لذا يصبح عالم الفن من هذه الناحية إرهاصا وحاضنا لرؤية تنبئية تمتلكها ذات على المستوى المرجعي هي بديع الزمان الهمذاني، تتوقع عبر منبرها الفني ما يمكن أن يسفر عنه الزمن الآتي.. وهو ما يعني أن فعل الكدية بالتشكيل الدرامي له داخل المقامات لن يبقي كما هو، بل سيتطور ويتغير تبعا لظروف كل بيئة، المقامة الوصية تقول ذلك؛ فهذا المكدي المتوسل، الذي يثير شفقة الآخرين بذكائه وبراعته يطالب القريبين (الابن) الالتصاق بصفات: الأثرة، الحرص، الاستيلاء على ما في أيدي الآخرين، وتحصيل الكثير وإعطاء القليل، إنها قراءة ضدية من قبل أبي الفتح لسياق المعتقد الديني الذي يطالب المرء بأن ينذر عشيرته الأقربين بأشياء بعيدة عن ذلك إلى حد كبير (15)
ومن الواضح أن سلوك أبي الفتح في هذه المقامة الوصية ينطوي على سخرية ذات تعاني؛ وهو ما يجعل منطوقها انعكاسا لحالتها النفسية التي تكشف عن ازدراء من جانبها لمنظومة القيم التي يشف عنها الواقع في وضعيته الجديدة.. ويطلق على هذه النوعية من المواقف في حقل النقد مسمي "الكوميديا السوداء" التي تغلف دراميا المأساة في ثياب الملهاة؛ فالنص الظاهري للمقامة الوصية يقول: إن هذا المثقف أبا الفتح الذي لم يتجاوز طور مرحلة قد انقضت قد أضحى من أبناء هذا العهد الذي خطب عن بعض مفرداته في هذه المقامة، لكن البنية العميقة للنص تسمح بالوقوف عند الضد؛ فهي ذات تحاول تبرير ثباتها عند القديم بالنقد الساخر للوجه المعيب للسياق في مرحلته الزمنية الراهنة، وما اللجوء إلى الحوار المتحرك من طرف واحد باتجاه الابن إلا حيلة فنية ترمز بها إلى هذا الموقف الرافض مسايرة هذا التغير بمعطياته التي تفرض نفسها على النسق السلوكي للفرد وللجماعة؛ ومن ثم يصبح الخطاب الحكائي للمقامة الوصية تحديدا بمثابة تبرير درامي يكشف عن علة ثبات الذات على حالها إزاء ما يقع حولها؛ فالأولى أن تعيش شخصية مكدية تتوسل ما عند الآخرين من أن توافق هذه الذهنية الحاكمة للفكر وللسلوك التي ينتجها هذا التغير، فتعيش بهذه الصفات السلبية التي كشفت عنها المقامة الوصية..
إذن يصير أبو الفتح نموذجا لأصحاب المبادئ في كل زمان ومكان الذين لا يتزحزحون عنها بغض النظر عن التحولات؛ فيبتعدون بإرادتهم عن سلطة السياق المحيط، أو تقرر هذه السلطة إبعادهم والتخلص منهم بطريقتها..
- بديع الزمان: الصوت والصدى
من التراث إلى المعاصرة تظهر شخصية ذات مبدعة هي محمد ناجي، لسؤال الواقع عندها طريقة خاصة في صياغته فنيًا، حوارها معه يتجاوز في أحيان كثيرة حدود ما يمكن تسميته بالصدق التاريخى، والصدق الفني وصولاً إلى منطقة جمالية، تحديد ملامح محددة لها يتطلب معاودة زيارتها مرات ومرات...إنه ذات تتحرك في عوالمها الفنية - شأن الكثيرين - محملة بإرث ثقافي يجمع في تكوينه الداخل والخارج معًا؛ فإنتاجه الروائى الذي استهله بـ "خافية قمر"، ثم "لحن الصباح" يأخذنا في عمله الثالث إلى "مقامات عربية" في تشكيل يحمل دعوة ضمنية من جانبه إلى كل من يهمه مقاربة هذا العالم مفادها: ضرورة الارتحال إلى المثقف التراثي أولاً: بديع الزمان الهمذاني ومن بعده الحريري بمصاحبة راويهما: عيسى بن هشام والحارث بن همام والبطل عند كل منهما: أبو الفتح الإسكندري وأبو زيد السروجي..مرورًا "بحديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي في القرن التاسع عشر، ثم سطيح ولياليه عند حافظ إبراهيم في "ليالي سطيح"..فضاءات فنية تمتلك أدوات تمنحها غواية خاصة تأسر بها هذا القارئ الذي عليه أن يسير في رحلته الذهنية بوعي الواقع الذي سيستحيل بعد زمن إلى تاريخ بناءً على رؤية تطرحها ثنائية "المثقف والواقع" وما يطرأ عليها من تغيرات تجعل من العلاقة بين الاثنين - عمومًا - مشوبة بنوع من القلق والتوتر الدائمين..
وذات محمد ناجي الحاكية من هذا النوع الذي تجمعه بسياقه رسالة يمكن نعتها بالسلبية، هي خصومة مبعثها حرص دائم على الارتفاع فوق يقين يهيمن على حركة أفراده، لهذا اليقين مظاهر عدة يتجلى فيها..وهذه الخصومة وتلك السلبية المفرزة لهذا الابتعاد، تعني أننا أمام نفي يلخص موقف هذه الذات من عالمها، وسيسعي للتدثر بثياب الفني في عملية الظهور داخل هذا العالم..
وفي "مقامات عربية" عنوانها الذي يقاوم منذ الوهلة الأولى سطوة المضارع الآني حاملاً في طياته بنية إنشائية (نداء) للرحيل إلى تجارب في الماضي اتخذت من الثابت المكاني الذي يعبر عنه الدال (مقامة) مرتكزًا تقوم عليه وهي تقدم رؤية رحالة لا ترغب في الجمود..هو قلق يعلن عن نفسه من اللحظات الأولى، وسرعان ما يتقوى حضوره بتجل آخر عندما يصافح قارئه شخصيات عمله من الداخل وحوارتها الدرامية، عندئذ سيجد هذه الذات القلقة تسافر به إلى مكان مغاير وثقافة أخري، ستحط به الراحلة في أمريكا اللاتينية حيث جابرييل جارثيا ماركيز في "مئة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا"..نحن إذًا مع ما يسمي بـ (الواقعية السحرية) التي يحتضن مضمونها الواقع الفعلى وتصورات المجتمع عن ذاته، وبخاصة التصورات التي تقوم على الأوهام والغرائب..هذه إذًا ثنائية (الداخل والخارج) في التكوين الثقافي لواحد مثل محمد ناجي ويشف عنها عمله "مقامات عربية" الذي يلتقي عنده بعض من تراث الذات وجزء من ثقافة الآخر في تشكيل يحاول أن يكون معادلاً لروح صاحبه التي تصمم لنفسها موقعًا خاصًا للرؤية تغاير به منطق التحديد والوضوح الذي ينطوي عليه التركيب الإضافي في: "مقامات بديع الزمان" و"مقامات الحريري"، و"حديث عيسى بن هشام" و"ليالي سطيح"..إلى منطق آخر يقوم على الضد تعلن عنه هذه النكرة الموصوفة "مقامات عربية"، نحن مع عموم وشمول لا يحده سوى السياق الثقافي "عربية" الذي يؤدي دور المكان والمخاطَب في الوقت نفسه من قبل ذات متكلمة فرضت على نفسها غيابًا جبريًا عن البنية الظاهرة لنسق اللغة المشكلة في دعوة ضمنية من جانبها بضرورة تحطيم اليقين الذي قد يحصل بناء على الظاهر وحده بحثًا عنه في أعماق المعاني وجواهر الأشياء؛ فلا يمكن لوعي يدعي لنفسه نضجًا يفاخر به في فضاء هذا العالم أن يبني أحكامه ويشكل في ضوئها علاقاته بناءً على قشور ظاهرية فحسب؛ فليغب المبتدأ وجوبًا دون أن نتعجل البحث عن ماهيته، المهم هو صياغة قانون جديد للعلاقة بين الذات والعالم يعتمد فضيلة العمق، عندئذ ستظهر أمام أرضنا التي نحيا فوقها سبل فجاج تعطينا بدائل للحركة وللفكر.. إذا ما قمنا بتفعيلها على سبيل المثال في "مقامات عربية" سنجد أنفسنا أمام محذوف له تجليات عدة: ندائي لكم مقامات عربية، أزمتنا مقامات عربية، واقعنا مقامات عربية، قلقي في عالمي مقامات عربية، هو الوهم إذًا ما يقصده الكاتب برسالته الفنية؛ فتوسل بالماضى شكلاً (أسلوب المقامة المعتمد على من يصنع الحدث ومن يرويه)، وبالآخر فكرةً، فجاء استدعاؤه لهذا النمط في الكتابة الروائية (الواقعية السحرية) الذي يعتمد ما يمكن أن نسميه بالتورية الدرامية التي تجعل الواقع الفعلى في منطقة الغاية البعيدة المقصودة، لكننا حتى نصل إليها لابد لنا من المرور على فضاءات من الأوهام والغرائب تعد بمثابة جسر فني نعبر عليه ويكون لنا عينًا في الوقت ذاته لرؤية قد تختلف كثيرًا عن نظرنا التقليدي..
وتتحول سمة العموم هذه المميزة للنكرة إلى بناء فني ذي طابع خاص عند محمد ناجي، فملامح الزمان والمكان تبدو ضبابية - إلى حد كبير- فالزمان في عالمه الفني لا يرتبط بمرجعية واضحة يمكن تحديده منها، اللهم إلا مرجعية التأليف ذاتها التي تعود إلى الصدور الأول للعمل في العام ألف وتسعمئة وتسعة وتسعين، وهو تاريخ فاصل بين نهاية وبداية ليس فقط بداية قرن جديد، إنما ألفية جديدة في عمر الإنسانية..هو في كل الأحوال رحيل للزمن وللجماعة بأثوابها المحلية والإقليمية والعالمية..ونحن في هذه اللحظة القلقة نكابد نظرًا في أكثر من اتجاه؛ فإلى الماضى يتوجب علينا الحساب والتقييم في عملية بانورامية تتخذ منحني أفقيًا في الغالب، فالأماكن والأزمنة والأحداث والشخصيات تعرض نفسها علينا في حركة متتابعة، مع حركة رأسية تسعي لمقاربتها بشكل متعمق وصولاً إلى تصورات تتغيا دقة وصوابًا..ومع هذه المقاربة الفيزيقية لما انقضى تأتى محاولة لرسم هذا الميتافيزيقي الذي لم يأت بعد، إنه هذا المستقبل، الألفية الجديدة التي توشك أن تكون، عندئذ لابد أن يلوح في أفق التأملات الفكرية سؤال الوجود (المصير) من أنا؟ ما الموقع الذي سأشغله في قطار الزمن المنطلق هذا؟ ما الذي ألقاه علىَّ هذا الماضى من كسب يدى ويد السابقين؟ ما أبعاد نظرة الآخر إليَّ؟ ما طبيعة نظرتي لذاتي في ظل هذه اللحظة التاريخية الفاصلة..؟..
هي لحظة قلقة إذًا، وقلقها ينعكس في فضاء حافل بالتساؤلات، وذات تتنوع في حضورها بين الفردي والجمعي، ويبدو أن حال الاضطراب هذا سيلقي بظلاله حتمًا على عالم فني يأتى إفرازًا له وحاملاً بدرجة كبيرة لبعض ملامحه؛ ومن ثم سيقاوم مفردات مثل: الثبات والتحديد والوضوح على مستوى كل من الزمان والمكان معًا؛ فقلق محمد ناجي الذي سعي إلى نقله إلى راوي مقاماته يأخذنا في رحلة القراءة إلى مقارنة تأخذ مكانًا لها في خلفية عملية الاستقبال بين عمله ومقامات واحد مثل بديع الزمان الهمذاني التي تكتسب في مجملها طابع الرحلة القائم على انطلاق الشخصية: أبو الفتح الإسكندري ومعها هذا الراوي (الظل) عيسى بن هشام من إطار مكاني إلى آخر له مرجعيته الواقعية ووفق محددات زمنية تبدو واضحة انسجامًا مع هذا المرجع..وهذه الأسفار في النهاية يمكن اختزالها دلاليًّا إلى أقصى درجة ممكنة في عنوان مفاده: المثقف في واقع متغير، وهي جملة يمكن أن نسقطها على محمد ناجي وعالمه الفني، لكن بآلية تأويل مختلفة؛ فالثابت المحدد (بديع الزمان الهمذاني) سيستحيل فنيًا إلى محدد معلوم اسمه (أبو الفتح الإسكندري) الذي يقاوم سلطان الواقع بقوانينه ومعطياته المتغيرة بأدوات معرفية: أدبية وثقافية وتاريخية قد تشكلت من مفردات اللغة في سبيل تحصيل منافع عاجلة سرعان ما تنتهي في إطار بنية درامية ذات طابع تكراري، ثابت شكلاً، متغير بتغير أطر المكان والأشخاص الذين يقابلهم، لكنه في كل الأحوال نشاط يغلفه الاحتيال والمهارة..لكننا مع راوى محمد ناجي نجد أنفسنا أمام تفكيك لهذا الأبي الفتح الإسكندري يقوم على التعدد وغياب التحديد؛ فكل عنوان فرعي داخل الرواية (مقامة بالنظر إلى الشكل التراثي) ينطوي في داخله على شخصية جديدة لها جاذبية وسلطة مؤثرة يخضع أمامها المحيطون: موقعة الأرنب، ولاية الحكيم، ولاية الظلال، ظل الفل، ابن العجلة، أبو سراب، السلطان حضرنا، الغلباوى، ظل الماء، عسكر وحرامية..في تتابع يمنح الزمن داخل الفن حركته دون أن يمنحنا يقينًا على وضوحه؛ فالراوي الذي يأخذ مكان عيسى بن هشام والحارث بن همام يتعامل مع تشكيل جمعي لأبي الفتح وأبي زيد السروجي، وهمه الأكبر مقاربة حكاياتهم ممثلةً في الحوادث الغفل الصادرة عنهم دون أن يعبأ كثيراً بتسليط عدسته الراوية على سلطة الزمان والمكان وأثرها في ظهور هذه الحوادث، كل ما نعرفه بالنسبة إلى الزمن هو هذه المسلمة التي ينطوي عليها أي عمل حكائى أن الراوي ينقل إلينا من زمن قد انقضى..
وهذا الجهد يداويه الوقوف على الشخصية المحورية في "مقامات عربية" ألا وهي الظل الذي سيستحيل على مستوى الفن إلى حقيقة ملموسة، سلطة مؤثرة في وعي الجماعة وفي سلوكيات أفرادها؛ فبه تتحدد شخصية الحاكم، وبه يتحول مقعد السلطة إلى ذات أخري، وبسببه تتحول العتمة (الأسطورة) إلى ذات إيجابية، طيبة تحفظ وترعي؛ ومن ثم يصبح القربان الذي علينا أن نسترضى به هذا الوحش الظل هو "لا تقل لظلك بم"، و"لا يظلك إلا ظلك"..فبالتوازي مع هذه الذات التي يتكرر حضورها في كل مقامات الرواية ألا وهي هذا الصوت الراوي الناطق القائم بعملية السرد، تأتى ذات أخري إلى جانبها على الطرف الآخر في هذه الثنائية التي يتأسس عليها بناء المقامات بصفة عامة (راوى الحدث وصانعه) هي هذا الظل الذي يحد هذه الجمعية على مستوى الشخصيات.. إن الراوي يقدم لنا أحداثًا في زمن مضى، إنه تاريخ - إذًا - لكنه تاريخ وهمي، والسر يكمن في هذا البطل (الظل) الذي يأتى التشكيل الخرافي له من خلال أحداث الرواية ليضفي عليها سلطانًا يجعله على الضد تمامًا من البطل في مقامات التراث الذي يتسول ما يبقي حياته وحضوره بوصفه إنسانًا، أما ظل محمد ناجي فإنه يفرض وجوده بقوة ما له من رصيد لدى الآخرين وفي وعيهم لدرجة تجعلهم في بعض الأحيان يتوسلون أمانهم منه:
"يا ضل واقف على الأبواب ينده لى
لفتح لك الباب والشباك تدخل لى
وإن عز بينا اللقا في الدار يا خلى
لهجر بلادى وابيع في غيتك أهلى
وامَّا يميل الزمان إيه اللى يفضل لى
أتغطى بالستر..واتسند على ضلى" (16)
والحديث عن فوبيا الظل المرتبط بالضياء يرتبط بتقديم درامي من قبل الراوي لنقيضه ألا وهو العتمة التي تمثل ملاذًا آمنا قد يرتفع في قيمته إلى حد أنه يساوي الحياة نفسها: ".. لزمنا بيوتنا طالما بقيت الشمس، وكان الواحد منا إذا خرج لسبب طارئ فلسع مستبقًا ظله، فإذا تخطى النقطة التي تطرح بعدها الشمس ظله أمامه، استدار ليعيد ظله أمامه وفلسع. كانت تلك أشق المعارك وأطولها، ضاع كل نهار فيها في الجري والفلسعة وحتى الليل لم يسلم؛ فقد كانت الليالي قسمة بيننا وبين القمر، له أربع عشرة ليلة يسطع فيها فنختفي عملاً بأمر زعيمنا: "واحذروا ظلال القمر" فإذا انتهت ليالي القمر صارت بقية الشهر لنا ، فنخرج ونرتع في الأرض، ونلتقي بأهلنا، ونتعارف بالصوت" (17)
إن حركة السرد المرتبطة بهاتين الشخصيتين: الظل والعتمة تعكس بقوة ثقافة الوهم المهيمنة على وعي الأفراد وما يصاحبها من نتائج تأتي بالتوازي مع منهجية محمد ناجي المعتمدة على الرحيل إلى الماضي في عمله هذا باستلهامه شيئا من التراث.. ومن الماضي القريب إلى ماض أبعد يمثل قاسما مشتركا بين أفراد الجماعة الإنسانية كلها، إنه هذا النسق السلوكي الذي كان مميزا لحياة الجماعات البدائية القائمة على ما يمكن تسميته (تقديس الخرافة).. وهذا الطابع الرحلي المتوسل بالقريب والبعيد في الماضي مستقره في نهاية المطاف واقع حاضر ، أثره القوي في وعي الكاتب هو الذي استفز مخيلته القاصة ليننجز رحلته بهذه الطريقة..
ومن الوهم وابنيه الفنيين: الظل والعتمة إلى هذه الذات المسئولة عن فعل السرد نجد أن الراوي في "مقامات عربية" يعتمد أسلوب السرد الكلاسيكى القائم على صيغة الرواية بضمير الغائب "هو" لكن إلى جوارها يأتى اعتماده لصيغة الرواية بضمير المتكلمين "نحن"، هو إذًا صوت يتنوع حضوره بين الرواية، والإسهام في صناعة الحدث، وفي هذه الأخيرة نجده ذاتًا تتحدث باسم الجماعة؛ بما يعني أن عملية نقل خرافة الظل (السرد) لا تأتى بمعزل فكريًا عن وعي هذه الجماعة "نحن" التي آمنت به سلطانًا وحقيقة لها حضورها المؤثر في ثقافة أفرادها، لقد تعمد الراوي بتوظيفه هذه الآلية أن يكون جزءًا من أزمة اسمها (الوهم) عبر هذا التمازج بين فضاءى رواية الحدث وإنتاجه؛ فالرؤية السحرية للواقع لدى محمد ناجي قد تدثرت بثياب المنتمي لسياقه وإن اختلف مع بعض مظاهره، لا بثياب المغترب المخاصم لما فيه مطلقًا؛ وهو ما يضيف إلى البنية العميقة لفنه بعدًا يمكن تسميته بـ "الصدق العاطفي" الذي يمثل حدا فاصلاً بين التقديم الدرامي للأزمة بشكل محايد موضوعي، والإحساس بها حال تقديمها، ولعل ما يقنعنا بذلك الموقف الفكري لناجي نفسه؛ فهو ذات تنتمي بإبداعها إلى مذهب الفن للواقع وأحد المتأثرين بالنظرية التأثيرية في الرسم وعالم الفن التشكيلي وانعكاساتها على الأدب على تعدد أنواعه، كما أن شخصية الأديب داخله لا تتوقف عند حدود كتابة الرواية، إنما تشمل الشعر أيضًا..وقرضه للشعر يسبق تاريخيًا ولوجه عالم الحكايات الذي اتجه إليه انسجامًا مع تحولات الواقع الاجتماعي والثقافي المصري والعربي مع نهاية حقبة الستينيات وبداية السبعينيات..
ويطرح هذا الانتماء من قبل ناجي تساؤلاً حول ماهية سلطة الظل هذه بالنظر إلى سياق الواقع، فلاشك في أن رصد راويه لتحولات هذا الظل تاريخيًّا من خلال حقب زمنية مختلفة، وعبر أفراد كثر تعاقبوا على كرسى الحكم قد جاء بنظر متساوٍ إلى مكوني البناء الاجتماعي (الحاكم والمحكوم) وهو نظر يخفي وراءه إسقاطًا على الواقع بمرجعيته المحلية والإقليمية وعلى أكثر من مستوى: فردى وجمعي بما يجعل من هذا الظل أيقونة تفتح دلالياً على مفردات عدة: تبدأ من الوهم المرادف للخرافة التي هي ضد الإبداع الذي يعني الخلق والابتكار وصولاً إلى الأثر السلبي لهذا الفاعل في سلوك الفرد والجماعة مما يقتضى ظهور شخصية أخري لها مغزاها الرمزي الواضح هي "العتمة" وصولاً إلى ما يمكن تسميته بداء الانكفاء على الذات الذي يعني تفككاً وانعزالاً واختباءً؛ فكل إنسان وظله، وكل إنسان مهموم مشغول بظله: يسترضيه ويهابه، ويفاخر به على ظل غيره..وهكذا، هي إذاً أزمة لها امتدادتها في الماضى تسكن في وعي الأفراد وتتجلى في سلوكياتهم وتنعكس سلبًا على نظرتهم لذواتهم ونظرتهم للعالم، يرصدها دراميًّا ويعبر عنها راوى محمد ناجي باستخدام الدال (الظل/الوهم/الأزمة) الذي أضحى شخصية محورية تمثل معادلاً روائيًّا لبطل المقامات في تراثنا، وقد ارتكز عليها ناجي ليعبر من خلالها عن رؤية مثقف مهموم بواقعه في زمن متغير..وهي ولا شك نوع من القراءة الإبداعية للسياق يمكن نعتها بالضدية (العكسية)؛ فما نظنه في عالمنا حقائق على مستوى الفكر والشعور والسلوك قد تنطوي على أزمة وتتخذ في حضورها تجليات عدة يتعامل معها كاتب مبدع مثل محمد ناجي بمنظور سحري بوصفها أوهامًا تتحرك في عوالمه الفنية، لكن وعي القراءة في مقاربته لها لا يصنفها تحت مسمي "الصدق الفني"..ولعل لمرجعية التأليف دورًا في ذلك فمن الواضح أن حضور محمد ناجي على حافة مرحلة زمنية قد استثار في شخصية الأديب داخله ثنائية (الفيزيقي والميتافيزيقي/الغيبي) التي غالبًا ما تطرح نفسها على فضاء إدراكي يودع مرحلة ويستقبل أخري في عمر الزمن في لحظة بالغة الحساسية تولد شعورًا بالقلق يفضى إلى تساؤلات متنوعة في أشكالها، كثيرة في عددها عما كان وسيكون، لكنها في النهاية تتجمع عند نقطة التقاء واحدة اسمها الحياة المعيشة..ويبدو أن هذه الحالة القلقة وما يصاحبها من توتر بقيت مهيمنة على وعي محمد ناجي حتى السطور الأخيرة من كتابته لـ "مقامات عربية"؛ فجاء صوت راويه يحدثنا عن ساعة الزمان:
"من أسفل الدائرة يتدلى الرقاص متأرجحًا في سلسلة الوقت، وفي أعلاها شرفة تنفتح كلما اكتملت دورة العقربين، ويبرز منها شبه سلامة، فيقرع صنوجه بعدد الأيام، وهذه الساعة باقية من عجائبنا إلى اليوم، ومكتوب تحتها: "هذه ساعة الزمان، فيها خطوط سير الأولين والآخرين وكما كان يكون"..
إن رسم بورتريه لثنائية (المثقف والواقع) من خلال محمد ناجي وروايته "مقامات عربية" يرتبط بمكون نفسي من قبل الأول (حالة قلق) أفضى إلى رسالة سلبيه صدرت عنه تجاه ذلك الواقع عنوانها (لا) تشكل هذا النفي فنيًّا من خلال تحطيم واضح لأبعاد الزمان والمكان على مستوى البنية الظاهرة لعالمه؛ فلا مكان ولا زمان محدد المعالم، وانعكس هذا التكسير كذلك على شخصيات عالمه؛ فنحن أمام جماعة من أبي الفتح الإسكندري داخل عالمه، وليس أبو الفتح واحدًا كما هو الحال في التراث، هذه الجماعة تنضوي في النهاية تحت سلطان واحد ذي هيئة وهمية خرافية تلين وتخضع له اسمه "الظل" الذي يقاوم يقين الواقع وثوابته، في إطار عملية من رد الفعل تحاول موازنة حضوره ومقاومته في الوقت ذاته، خصوصًا إذا كان ينطوي على أزمة تأخذ الفرد والجماعة بعيدًا إلى فضاء العتمة بكل تعالقاته الدلالية ذات الطابع السلبي الذي يعزلها عن حقل النور وارتباطاته الإيجابية..
ختام
في ضوء هذه القراءة لنص المقامات عند الهمذاني نخلص إلى الآتي:
- يمكن النظر إلى البناء التشكيلي للمقامات بالإفادة مما يسمي بـ"الوحدة التركيبية" على أنه رواية مكان؛ فهذا الدال "مقامات" يتفكك دراميا إلى أطر مكانية عدة تعكس حال الحركة المعبر عن أداء طرفي ثنائية (الراوي والبطل).
- وسطية أبي الفتح في المقامات تكمن في أزمته؛ فهو شخصية تتحرك دراميا بين طرفي ثنائية (الثابت والمتحرك) دون توقف؛ فالثبات بالنسبة إليه يكتسب دلالته من مدلول نقيض يتمثل في فعل الرحلة القائم على الانتقال من إطار مكاني إلى آخر، وتكرار هذا الفعل داخل نص المقامات يعد بمثابة توكيد درامي على جمود ذات مثقفة وسط مجتمع متغير.
- يعد فعل الكدية انعكاسا لذات تتبادل حال إنجازه موقعي ثنائية (الفاعل المعتدي والمفعول الضحية)..
- منظور رؤية القيمة نسبي يختلف من ذات إلى أخري، ويختلف باختلاف البيئات الزمانية والمكانية..
- شخصية المكدي في المقامات غلاف درامي ظاهري يخفي وراءه ذاتا ساخرة تنتقد بطريق غير مباشرة نمط الحياة الذي يقوم عليه المجتمع الاستهلاكي عموما..
- غربة أبي الفتح تنعكس من خلال نسقين دراميين: أحدهما أفقي يكمن في فعل الرحلة القائم على عملية الانتقال من مكان إلى آخر، والثاني رأسي يتمثل في فعل الكدية الذي يمارسه داخل المكان بتوظيف ما يتميز به من براعة لغوية..
- علاقة المثقف في المقامات بمجتمع المدينة سمتها التوتر – في الغالب – والدليل على ذلك عدم القرار في مكان بعينه..
- التعريف الدرامي لشخصية أبي الفتح يعكس مراحل تطور الشخصية العربية عبر الزمن وحركتها في المكان، منذ العصر الجاهلي حتى زمن بديع الزمان الهمذاني..
- بناء المقامات ينطوي على نسق درامي يقوم على منطق التبرير؛ فأحد أسباب جمود أبي الفتح على حاله يكمن في قراءته الحاضرة والمستقبلية لمنظومة القيم الموجهة لحركة هذا المجتمع في ثوبه الجديد، ولعل الحوار أحادي الاتجاه الذي تتضمنه المقامة الوصية يمثل تفسيرا جماليا لهذا الموقف..
- فعل الكدية الذي تحتضنه بنية سردية ذات طابع تكراري يعد نتيجة لسبب، يمكن الوقوف على النسق الدرامي له من خلال الوجه الساخر لشخصية أبي الفتح في المقامة الوصية..
- بالتوازي مع حركة أبي الفتح داخل نص المقامات، فإن هذا النص نفسه يتحرك عبر الزمن أفقيا ورأسيا ملقيا بظلاله على فضاء التداول على اختلاف أشكاله؛ فهاهي ذي القراءة المبدعة ممثلة في توفيق الحكيم ومسرحية "الأيدي الناعمة" ومحمد ناجي في "مقامات عربية" تستلهمه وتعيد توظيفه بما يخدم رؤيتها..
- نموذج المتسول الكائن في عالم المقامات مازال يطرح نفسه في فضاء الحياة المعيشة بأشكال شتى.. واللافت أنه قد طور نفسه فصار يعمل في إطار يمكن نعته بالمؤسسي؛ فللكدية في عصرنا الحديث من يديرون ويخططون، ومن يعملون وفقا لرؤية الاثنين، ولقد ناقش الفن المرئي ذلك بصور متعددة..
- من كل ما تقدم تعد ثنائية (المثقف وواقعه) المنطلقة من هذه الثنائية الأعم (الذات والعالم) بمثابة رحم آدمي أو جذر يبرر خروج هذه العائلة الفنية على اختلاف تجلياتها..






هوامش
1- انظر: الهمذاني (أبو الفضل أحمد بن الحسين)، المقامات، شرح وتحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مقدمة المحقق، من ص11 إلى ص15، طبعة 2002م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
2- انظر: السابق، ص13، 14.
3- انظر: الفيرز آبادي (مجد الدين محمد بن يعقوب)، القاموس المحيط، مادة: قوم، الطبعة السادسة، 1419هـ، 1998م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
4- الهمذاني، المقامات، المقامة العراقية، ص231، 232.
5- انظر: السابق، هامش ص232.
6- انظر: د. عبد الحميد إبراهيم، موسوعة الوسطية العربية، الكتاب الثاني: تطبيقات الوسطية، من ص158 إلى ص161.
7- انظر: د. مصطفي ناصف، محاورات مع النثر العربي، ص213، 214، طبعة 1997م، سلسلة دار المعرفة، الكويت.
8- الهمذاني، المقامات، من ص27 إلى ص29.
9- انظر: يوسف الشاروني، القصة تطورا وتمردا، ص54، الطبعة الثانية، 2001م، مركز الحضارة العربية، القاهرة.
10- الهمذاني، المقامات، ص73، 74، 77، 78.
11- السابق، من ص141 إلى ص143.
12- يوسف الشاروني، القصة تطورا وتمردا، ص158.
13- انظر: د. سيد محمد قطب، د. عبد المعطي صالح عبد المعطي، أضواء وأصداء في مدار الأفكار، من ص15 إلى ص23، طبعة 2009م، دار الهاني، القاهرة.
14- الهمذاني، المقامات، من ص377 إلى ص393.
15- يقول الله سبحانه وتعالى: "وأنذر عشيرتك الأقربين"، سورة الشعراء: الآية 214.
16- محمد ناجي، مقامات عربية، ص37، طبعة صفر، 1420هـ، 1999م، دار الهلال، القاهرة.
17- السابق، ص15، 16.

الجمعة، 30 يوليو 2010

"عندما" ميلاد لحظة في عمر الزمن، فمن سمع صرخاتها؟

ترسم ملامح الزمان قبل المكان
تحطم قيود الحاضر المضارع
تأخذك حيث اللازمن
حالة أشبه بقانون يحكم حركة الأرواح في فضاء مليء بالغموض والأسرار
فضاء يجد سعادة في أن يطفيء أنواره
فتسكن أرواح أبت أن تعيش تحت أشعة النهار
إنها تعريها نعم
ترفع تاج الحياء من فوق رأس هذه الملكة نعم
فيأتي الظلام
فارسا على حصانه
ليعيد إلى أميرته التاج من جديد
إنها السندريللا
وهو الشاطر حسن
إنها حبيبتي
وهو حلقة الوصل بيننا
إنها حبيبتي
وهو الغطاء الذي أستعين به
أضمها إليَّ فتعمل مدفأته
إنها ترتعش من نهار طويل
وأنا أرتعش خوفا عليه
إنها مريضة النهار توشك أن تكون ضحيته
لكن ليلي ومدفأتي وقلبي وروحي
أدوات يتشكل بها ذاك الطبيب الكائن بداخلي
لقد أصبحت طبيبا
ها أنذا أجري يمينا ويسارا
أصعد وأهبط
عماذا أبحث؟
أأنا هاجر أبحث عن شربة ماء؟
أهي صرخة إسماعيل تنادي عليَّ؟
إنها الحياة إذًا
إنها الروح إذًا
التي لا أريد لأفئدة أخرى غيري تأوي إليها
كم يتمزق هذا الطبيب
كم عانت هاجر
كم عدد صرخات إسماعيل
إنها الحياة
إنها الروح
إنها حبيبتي
إنها حبيبتي
سؤال المكان يسأل عنك (أين)
سؤال الزمان يناديك (متي)
حبيبتي
ما سر هذه الياء في آخرك؟
إلى أي شيء تشير؟
لماذا بعدما دخلتِ تطلبين الخروج؟
لماذا تعبثين بوجهك الجميل؟
لماذا تنقضين غزلك بعد كل هذا الإحكام؟
لماذا تحاولين فرض شبح مخيف على يائي الجميلة؟
لماذا لا؟
وبالإمكان نعم
لماذا الخروج؟
وفي الدخول مأوى؟
أهو عقاب لأني أحببتك؟
وهل في الحب جريمة تستحق عقوبة الإعدام؟
أهو الموت جزاء الحب؟
وكيف يلتقي عندك الموت والحياة بهذه الطريقة؟!
هل وجدت فيَّ سنمار وهذا هو جزاؤك له؟
لماذا يكون ثمن الحياة القتل؟
أين قلبك وأنت تتجاسرين على تنفيذ حكم كهذا؟
أين يدك التي لامست شغاف قلبي فكانت قبلة الحياة له؟
حبيبتي
إنها عزائي منك وأنسي
حبيبتي
إنها طوق النجاة لي
حبيبتي
هي معراجي لمَّا ضا قت بي الأرض
حبيبتي يا مسراي حيث تتربص بي حياة لا أريدها
حبيبتي
لا تأخذي مني هذه الياء
إنها ما تبقى لي
حبيبتي
كم اشتقت أن أسمع مثلها
حبيبتي

من أنا؟ سؤال لا تستطيع الإجابة عنه بمفردك

الاسم: أحمد بن يحيي الروبي
السن: بدأت نهايتي منذ العام ألف وتسعمئة وثمانية وسبعين، في يوم الثلاثاء، الثامن والعشرين من شهر نوفمبر.
الهواية: القراءة والكتابة، والكلام،...
العمل: مثل الهواية، لكن في إطار مؤسسي هو الجامعة، حيث أعمل في كلية الألسن جامعة عين شمس.
الحالة الاجتماعية: متزوج وأعول طفلتين.
محل السكن: في القليوبية، لكن سكني المفضل على الأوراق
الغاية: البقاء في الزمن الآتي، بعد أن يعلن القدر لحظة نهايتي لحما ودما
عباراتي المفضلة: قصتك لن يكتبها أحد غيرك
أصدقائي: منذ طفولتي وأنا أبحث عنهم، ولازال البحث جاريا..
أعدائي: الثقة بالنفس، وقولة ليس بالإمكان أبدع مما كان
محبوبتي: من كانت ليلى فكنت لها قيسا..