الأحد، 8 أغسطس 2010

فن الحكاية العربية

فن الحكاية العربية بين التراث والمعاصرة
د. أحمد يحيي علي،كلية الألسن، جامعة عين شمس
الكتابة عموما سلوك إنساني مقاوم للفناء إذا قورن بالكلام المنطوق، تدخل مع غيرك في حوارات تتناول مواضيع شتى تتنوع فيما بينها من حيث المضمون والقيمة، تُرى ماذا يبقى منها بعد انتهائها؟ .. لا يحيا منها إلا أثرها، هذا الأثر مرهون بأمرين: راو وكاتب، إنسان يقص عنك ما قلت إلى غيرك وكاتب يدون من خلال وجهة نظره هو أو وجهة نظرك أنت أو بالاثنين معا ما قيل.. قد تكون أنت الراوي والكاتب في الوقت نفسه.. قارن بين حديث أدرته مع صاحب وآخر قمت بنقله إلى مدونتك وانظر أيهما أطول عمرا ؟..
وممارسة فعل الحكاية على الورق يعد أحد مظاهر هذا السلوك الإنساني المقاوم؛ إنه يحتضن صوتا أنثويا فاعلا هو صوت هذه المرأة الراوية "شهرزاد" التي وظفت القصة لتكون طوق نجاة بالنسبة لها ولبنات جنسها من طائر الموت القادم مع هذا المتسلط شهريار، فكانت الحكاية بمثابة المرادف الملموس لرغبة البقاء والتواصل التي تلح على الإنسان بصفة عامة؛ فنحن في ألف ليلة وليلة مع العدد ألف ومع ليلة، الأول يعني التغير والتحول.. والثانية، أي كلمة ليلة تشير إلى الزمن (العمر)؛ هي إذًا رحلة العمر وبداخلها يتنازع الإنسان سلطتان: سلطة البقاء التي تمثلها شهرزاد، وطائر الموت الذي يحوم بالقرب من شهريار، ولا شك في أن الموت هنا لا يقتصر على معناه المباشر فقط، إنما يمتد ليشمل كل مقومات اليأس والفشل والإحباط التي قد تؤدي في النهاية إلى حالة من الجمود نطلق عليها أحيانا الطريق المسدود، هي حالة تشابه الموت تماما؛ لذا فإن صنيع شهرزاد يصير رمزا حاضرا عبر الزمن لكل فعل إنساني من شأنه مقاومة لحظات العسر هذه والخروج منها إلى حالة مغايرة تمنح الحياة ثراء وتنوعا يجعلها تتحرك بين الشئ ونقيضه دون أن تسكن على حال بعينه..

- أبجدية التاريخ: الحكاية بنت الأغنية
في سياقنا الثقافي العربي قديما وحديثا أصوات اتخذت من العالم موضوعا لها ومن فعل التأليف وعاء يحتويه ويحتوي رؤيتها له، من هذه الأصوات الأصفهاني (أبو الفرج علي بن الحسين) – ت.356هـ - هو واحد من الذين يمتلكون رصيدا داخل المكتبة الثقافية العربية، عُرف عنه اهتمامه بالأدب والتاريخ والأنساب والسير واللغة، من مصنفاته: الأغاني، أدب الغرباء، الإماء والشواعر، أيام العرب..
من تاريخ وفاته نعرف أنه عاش في العصر العباسي في مرحلة زمنية وصل فيها البناء الحضاري إلى ذروته؛ فبعد أن استوعب بدرجة كبيرة الوافد إليه من الأمم الأخرى مثل فارس والهند واليونان إضافة إلى إلمامه بما عنده بدأ هذا البناء يعطي في مجالات شتي ليضيف إلى الرصيد المعرفي للإنسانية، ظهر ذلك جليا في القرن الرابع الهجري.. والأصفهاني قارئ جيد لطبيعة عصره؛ فقد عاش زمنا انتشر فيه الغناء بعد أن فتح العرب أبوابهم ليخرجوا مصافحين غيرهم من الذين يختلفون معهم في اللغة والثقافة؛ فأسفر هذا الخروج عن دولة مترامية الأطراف، متعددة الأعراق، لكن الجميع في النهاية يؤدي داخل سياق حضاري واحد.. وقد كان هذا العصر بمثابة السبب لنتيجة تمثلت في ظهور أحد أكبر المصنفات العربية التراثية ألا وهو كتاب الأغاني، من العنوان تبدو الصلة الوثيقة بينه وبين زمن إنتاجه؛ لقد جعل الأصفهاني من الغناء مادة يقف عليها ليقدم إلى قارئه ترجمة (حكاية) تتصل بها؛ فبناء الكتاب يقوم على مقدمة تتضمن عرض الأصفهاني للظروف التي أحاطت بوضع مصنفه، بعد المقدمة صلب العمل ممثلا في تراجم (حكايات) لشعراء ومغنين وأمراء.. وغيرهم ممن أسهموا في تشكيل السياق الثقافي العربي بدءا من العصر الجاهلي حتى العصر العباسي زمن الأصفهاني؛ فالقارئ لهذا العمل يجد نفسه في حالة حركة ذهنية عبر الزمن يتنقل من ترجمة (حكاية) إلى أخرى.. جميعها في النهاية ينضوي تحت أربعة أزمنة رئيسة:
- زمن ما قبل الإسلام (الجاهلي)
- عصر صدر الإسلام
- العصر الأموي
- العصر العباسي.. حتى الأصفهاني
لكن هذه القراءة قد وضع لها صاحب الأغاني منهجية خاصة تسير عليها – في الغالب – يعرفها القارئ من مقدمته " هذا كتاب ألفه علي بن الحسين المعروف بالأصبهاني، وجمع فيه ما أمكنه وحضره جمعه من الأغاني العربية قديمها وحديثها، ونسب كل ما ذكره منها إلى قائل شعره وصانع لحنه.. واعتمد في هذا على ما وجد لشاعره أو مغنيه .. خبرا يستفاد ويحسن بذكره ذكر الصوت (الأغنية) معه.. وأتى في كل ذلك بنتف.. وفقر إذا تأملها قارئها لم يزل متنقلا من فائدة إلى مثلها ومتصرفا فيها بين جد وهزل وآثار وأخبار.. متصلة بأيام العرب المشهورة وقصص الملوك في الجاهلية والإسلام.. وصدر كتابه هذا بذكر المائة صوت (الأغنية) المختارة لأمير المؤمنين الرشيد التي كان أمر إبراهيم الموصلي .. باختيارها له.. ولعل بعض من يتصفح الكتاب ينكر تركنا تصنيفه أبوابا على طرائق الغناء أو طبقات المغنين في أزمانهم ومراتبهم.. وليس المغزى في الكتاب ترتيب الطبقات وإنما المغزى ما ضمنه من ذكر الأغاني بأخبارها.. والذي بعثني على تأليف هذا الكتاب أن رئيسا من رؤسائنا كلفني جمعه له.." الأصفهاني، الأغاني، الجزء الأول، المقدمة، ص1، 2، 3، 5، طبعة 2001م، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
من هذه السطور نجد أنفسنا مع ثنائية رئيسة يقوم عليها مصنف الأغاني هي (الأغنية والحكاية) وقد أخذت الأغنية عند الأصفهاني تسمية صوت؛ إذ جعلها الأساس الذي تخرج منه الحكاية في الغالب، وقد ارتبط هذا الصوت بسلطة الحاضر الذي عاشه الكاتب وفرض نفسه عليه.. ولعل حديثه عن أن رئيسا من الرؤساء قد كلفه بجمعه قبل أن يكون حديثا له مرجعية في الواقع فإنه يحمل دلالة رمزية تشير إلى أن لكل واقع سلطة يمارسها على الذات المبدعة عموما، فتتحول من سلطة ذات وجود حقيقي إلى قانون يوجه الكاتب أثناء عمله، هذا القانون يمكن تسميته بـ(قانون الشكل)؛ فالمتصفح للأغاني يجد أن الصوت الشعري (الأغنية) يأتي غالبا في خاتمة الحكاية (الترجمة) ليؤسس لحكاية جديدة آتية بعدها:
"صوت
وإني ليرضيني قليل نوالكــم
وإن كنت لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم
من الوصل إلا عدتم بجميـل
الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لسليمان الفزاري ولحنه المختار من الرَّمل بالسبابة في مجرى البنصر.." الأغاني، الجزء الثامن، ص351، طبعة 2001م، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
إن هذا الصوت قد جاء في في نهاية الترجمة الخاصة بسلامة محبوبة القس، أما عن الترجمة التالية لها فهي للعباس بن الأحنف مبدع هذا الشعر المغنى؛ ومن ثم فنحن أمام فلسفة في التشكيل لا تبتعد كثيرا عن الواقع الذي أفرز هذا العمل؛ فالقارئ لتصدير الكتاب يجد القول الآتي لابن خلدون " الغناء من الكماليات في حياة الشعوب التي لا تحصل إلا في حالات الفراغ، وهي آخر ما يحصل في العمران من الصنائع" الأغاني، الجزء الأول، تصدير الكتاب، ص14.
إن صاحب الأغاني يحاول إقامة بناء فني مواز للواقع؛ فإذا كان الغناء هو آخر ما يحصل في تشكيل أي مجتمع فهاهو ذا يأتي آخرا في تشكيل الحكاية الكلية (الترجمة) عند الأصفهاني ليكون رحما تخرج منه حكاية جديدة.. وهكذا.
والملاحظ على الصوت المغنى عموما التعددية؛ فهو بناء يتركب من ثلاث شخصيات: شاعر (مؤلف الصوت) وملحن ومغن.. وهذه السمة التأليفية الغالبة في الأغاني ستترك أثرها في الحكايات الكلية التي تتأسس عليها؛ فهي الأخرى تقوم على سمة التعدد؛ إذ لا تقتصر الترجمة على حادثة واحدة تعبر عنها، بل هي بناء مركب من مجموعة من الحوادث يطلق عليها اسم أخبار قصصية، فكل ترجمة تتكون من عدد من الأخبار .. ولا شك في أن هذه التسمية – أي خبر قصصي – تأخذنا إلى كثير من المصنفات التراثية التي اتخذت من السرد مادة لها، فكان الخبر القصصي بمثابة وحدة حكائية صغيرة يتأسس عليها قوام العمل.. ومن أشهر كتاب الخبر القصصي: الجاحظ – ت.255هـ - وكتابه "البخلاء"، وأحمد بن يوسف المصري الملقب بابن الداية – ت.339هـ - وكتابه "المكافأة وحسن العقبى"، والتنوخي – ت. 384هـ - وكتاباه "نشوار الحاضرة" و"الفرج بعد الشدة"، وابن السراج – ت. 500هـ - وكتابه "مصارع العشاق".. وغيرهم.
وقد قدم أ.د سيد محمد قطب في كتابه "بناء السرد والخبر" تعريفا للخبر القصصي – هذا الكتاب عبارة عن رسالة تقدم بها صاحبها لنيل درجة الدكتوراه من كلية الألسن في العام 1993م – أوضح هذا الرجل أن الخبر القصصي عبارة عن بناء لغوي يشير إلى حدث مفصل له شخصياته الفاعلة وإطاره الزماني والمكاني الخاص، يسعى راويه إلى بث قيمة ما لها أهميتها بالنسبة للمستقبل من خلال نظام اتصال يستدعي صوتا سابقا على صوت ذلك الراوي حتى يضفي على الحدث صبغة واقعية..
يأخذنا هذا التعريف إلى طبيعة تشكيل الخبر القصصي؛ فراويه يبدؤه في الغالب بقوله: حدثني فلان عن فلان عن فلان قال: .. أي أننا ونحن نقرأ الخبر نجد أنفسنا أمام سلسلة سند، ثم بعد ذلك تفاصيل الحدث من الداخل أو ما يطلق عليه متن الخبر.. وهذه سمة كانت غالبة على كتاب الخبر القصصي التراثي، واللجوء إليها كان – إلى حد كبير – بغرض الإيهام بواقعية ما يُحكى حتى لو كان من خيال المؤلف؛ لذا فإن من السمات البارزة للخبر جمعه بين التاريخ والفن، أو الحقيقة والخيال؛ فلا نستطيع أن نجزم بشكل حازم بأن الخبر حقيقي قد وقع فعلا، كما أننا لا نستطيع أن ندعي بأن مخيلة القاص هي المسئول الوحيد عن إنتاجه؛ ومن ثم فهو يتحرك بين هذا وذاك.. وأنت في كثير من الأحيان قد تمارس لعبة الخبر القصصي على طريقتك؛ فربما تشاهد بعينيك أو تسمع عن حدث وقع ثم تعيد صياغته وروايته بشكل يمنحه حضورا يوازي حضوره الحقيقي؛ ومن ثم قد يصبح للحادثة الواحدة أكثر من وجه نعرفها به، وكتابة التاريخ تتفق بدرجة كبيرة وهذا الحال؛ إننا في مصافحته لا نجد أنفسنا في الحقيقة أمام مادة نريد معرفتها، لكن أمام وجهة نظر تقدم من خلالها هذه المادة؛ فكم من الشخصيات التي عاشت في أزمنة قد ولت وكم من الأحداث التي وقعت في الماضي كلما تعرضنا لها صادفنا مأزق تكوين رأي واضح تجاهها، السر في ذلك أنها أضحت تاريخا وانتقالها إلينا كان من خلال أكثر من عين وكل عين في الحقيقة هي وجهة نظر تخضع لمزاج فكري ونفسي خاص..
ولنتوقف الآن على نموذج للأخبار القصصية التي تتضمنها الحكايات الكلية (التراجم) في الأغاني، هو من حكاية عنتر بن شداد:
" أخبرني عمي قال، أخبرني الكُراني عن النضر بن عمرو بن الهيثم بن عدي قال: قيل لعنترة أنت أشجع العرب وأشدها؟ قال: لا، قيل فبماذا شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما، ولا أدخل إلا موضعا أرى لى منه مخرجا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع، فأثني عليه فأقتله" الأغاني، الجزء الثامن، ص244.
ورد في تعريف الخبر القصصي أن الراوي المرسل له يهدف من ورائه إلى بث قيمة ما، هذه القيمة التي تسم الخبر عموما لها بعدان: شكلي ودلالي؛ فعلى مستوى الشكل يبدو جليا مبدأ التعددية الذي يلحظه القارئ بدايةً في جملة السند التي تحتوي أكثر من صوت يحكي لتنتهي الرحلة عند ذاك الراوي الأحدث زمنا في سلسلة السند.. وفي داخل المتن يظهر هذا المبدأ – وهذا الشاهد نموذجا – من خلال فاعلين يتناوبان تقديم قصة الخبر: الأول فاعل راو هو هذا الراوي الأحدث زمنا في جملة السند صاحب التركيب "أخبرني" وفي المتن نجده هو الذي يقول "قيل لعنترة" و"قال" و"قيل" هذا الحضور لصوت الراوي يطلق عليه في علم السرد "أسلوب الرواية بضمير الغائب" أو "الراوي العليم" .. إلى جوار هذا الراوي تأتي شخصية من داخل متن الخبر لتكون الفاعل الثاني يجده المتلقي يتحدث بصوته مباشرة، نموذجه عنترة بن شداد صاحب مقولات "كنت أقدم.. وأحجم.. ولا أدخل إلا موضعا.. وكنت أعتمد " ويطلق على منطوق الشخصية في نظرية السرد " سرد الشخص الثاني" أو المستوى الحواري في الرواية..
إذًا فنحن على مستوى الشكل أمام قيمة تتمثل في غياب أحادية صوتية تفرض نفسها على منظومة الحكي ويأتي ملازما لها أحادية في الرؤية تجعل من عين الراوي المتحدث السبيل الوحيد أمام المتلقي لمعرفة ما يدور، لكننا بصدد تعددية صوتية يتمتع فيها هذا الراوي بمرونة تتيح لشخصيات الحكاية فرصة في الظهور، تماما كما لو كنا في مجلس حواري لا يستأثر فيه واحد بالحديث دون غيره، ولا شك في أن هذه الطريقة تمنح للراوي في التراث عموما وليس في الأغاني وحده وضعا متقدما يتجاوز أسلوب السرد التقليدي الذي تحدث عنه منظرو الحكاية الغربيون متجاوزين إياه، من أمثال: إدوين مورجان فورستر، وهنري جيمس؛ إذ كانت الحكاية تعتمد فيما مضى على صوت واحد يقوم بتقديمها هو صوت الراوي – في الغالب – دون غيره؛ لذا وصفوه بالعليم، لكن الراوي عند الأصفهاني يبدو مختلفا – إلى حد كبير – فهو يتمتع برؤية ذات طابع وسطي تجمع بين منطقة الحضور في الرواية من خلال الحديث بصوته صراحة، ومنطقة المشاهدة عندما يتنحى جانبا تاركا المجال لشخصيات القصة لتتحدث بصوتها بطريقة تأخذنا إلى عالم المسرح حيث الشخصيات تعرض نفسها مباشرة أمام الجمهور المشاهد..
هي إذًا قيمة يبثها لنا عالم الفن من خلال الأغاني مفادها أن الإنسان لا يستطيع أن يدعي لنفسه علما مطلقا في مجال ما مهما بلغت درايته به؛ فدائما فوق كل ذي علم عليم، والعين إذا تمكنت من الإلمام بشئ فقد غاب عنها أشياء قد أحاط بها غيرها لتبقى الرغبة في الرحلة والبحث والتواصل مع الآخر مستمرة..
وإلى جوار قيمة الشكل تأتي قيمة المضمون (المعنى) فلبنية هذا الخبر على سبيل المثال رسائل عدة تبثها إلينا منها:
- الأحكام المطلقة ليس لها مكان في عالمنا؛ فعندما سئل عنترة "أنت أشجع العرب وأشدها؟" قال "لا".
- الفن في قراءته للواقع يسعى إلى إعادة توازن قد تعرض لنوع من الخلل؛ فعنترة ليس أشجع ولا أشد، لكنه ربما يكون شجاع وشديد؛ فالإنسان دائما على حال يتوسط به من هو أعلى منه ومن هو أدنى منه منزلة، ينسحب ذلك على القوة الجسدية والثروة والعلم والذكاء.. وغير ذلك.
- شجاعة الإنسان الحقيقية وكذلك شدته تكمن في ذكائه النابع من حسن قراءته لمواقف الحياة من حوله.
- في كل إنسان نقاط ضعف عديدة، اكتشاف الآخرين لها يمثل مناطق قوة بالنسبة لهم.
- عنترة يعد نموذجا لكل ذات إنسانية بليغة تقرأ مكونات سياقها المحيط وتتعامل معها بما يناسبها؛ ولننظر إلى الصوت الشعري المغنى الذي كان أساسا خرجت منه حكايته الكلية:
"صوت من المائة المختارة:
احذر محل السـوء لا تحلـل بـه
وإذا نبـا بـك منـزل فتحـول
الأغاني، الجزء الثامن، ص235.
وتظل فضيلة التعدد تؤدي عملها في مصنف الأغاني؛ فمن التعددية على مستوى الصوت المغنى إلى التعددية على مستوى الخبر القصصي يتجلى مظهر ثالث لها تشير إليه طبيعة الشخصيات التي لها تراجم في عمل الأصفهاني؛ إنه في عمله لا يقدم شريحة بعينها؛ فالمتصفح له يجد يجد حكايات لشعراء ومغنين وأمراء رجالا ونساء، الأهم من ذلك أنه يضم عربا وموالي وهم الذين ينتمون إلى الجنس الفارسي في إشارة تعكس رغبة صادقة من جانبه في تقديم صورة أمينة للواقع الاجتماعي العربي في العصر العباسي تحديدا.
وفي هذه الصورة يسكن حلم الأصفهاني الذي يبدو أنه كان حريصا على أن يجعل من كتابه الأغاني ما يشبه سيرة قصصية للإنسانية كلها لكن برموز وبأسماء ترتبط بالبيئة العربية وبالعصر الذي عاش فيه؛ فالقارئ لأول ترجمة يتضمنها كتاب الأغاني يجد أن راوي الأصفهاني في حديثه عن نسب صاحبها أبي قطيفة قد توسع في عرضه له فيما يشبه رحلة عبر الزمن أخذ المتلقي خلالها إلى شخصيات وأزمنة حتى وصل به إلى أبي البشرية آدم عليه السلام الذي إليه ينتهي نسب الأسرة الإنسانية كلها، وكأن الأصفهاني بذلك قد أراد أن يجعل من عمله خطابا عالميا يتجاوز به حدود سياقه الحضاري. انظر الأغاني، الجزء الأول، ترجمة أبي قطيفة، من ص12 إلى ص14.
ولهذا الخطاب أبجديته الخاصة التي يتحرك من خلالها؛ فثنائية (الأغنية والحكاية) التي تشكل قوام هذا العمل تحكمها أطر زمنية أربعة تتحرك داخلها هي: الجاهلي، والإسلامي، والأموي، والعباسي.
وهذه الأبجدية ذات المرجعية العربية التي اتخذت من الغناء موضوعا تؤسس عليه مادتها القصصية تقرب مصنف الأغاني – إلى حد كبير – مما يسمى حديثا برواية الأجيال أو الرواية النهرية التي تقوم على أسرة محددة يتم تناولها من خلال أجيال متعددة، كما هو الحال على سبيل المثال بالنسبة لأسرة السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، من هذا المنطلق يمكننا القول: إننا مع الأصفهاني أمام أسرة ينتمي أفرادها إلى بناء حضاري واحد قد مارست الشعر إبداعا وغناء وتلحينا عبر أجيال متعاقبة فاستحقت الوجود في كتاب حكايات اسمه "الأغاني".

- أبجدية اللغة: الحرف مكان تسكنه الحكايات
في أدبنا العربي الحديث صوت سردي يتمتع بحضور لافت هو نجيب محفوظ الذي بدأ في ممارسة نشاطه السردي منذ الثلث الأول من القرن العشرين مستعينا بدراسته للفلسفة التي نال عنها شهادة الليسانس في كلية الآداب جامعة القاهرة، وموظفا مادة واقعية ثرية كان محورها المجتمع المصري قديما وحديثا.. والكلام عن صاحب نوبل يأخذنا إلى المرحلة الأولى في كتابته للراوية ألا وهي المرحلة التاريخية الفرعونية، وخلالها أعطى للمكتبة السردية ثلاثة أعمال: "عبث الأقدار" و"رادوبيس" و"كفاح طيبة".. وتأليفه هذا النمط الذي اتخذ من المجتمع المصري القديم مادة لبناء روائي يقوم على الخيال في المقام الأول يعود إلى تأثره بالأديب الاسكتلندي والتر سكوت أحد رواد كتابة الرواية التاريخية في الغرب..
ولم يتوقف محفوظ عند هذا النمط فقد انتقل إلى مرحلة تالية هي كتابته للرواية الواقعية التي يندرج تحتها كثير من أعماله، منها على سبيل المثال: القاهرة الجديدة التي مثلت فيلما بعنوان القاهرة 30 ، خان الخليلي، زقاق المدق، الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، اللص والكلاب، ميرامار..
وقد كان للحارة المصرية وللشخصية التي تسكنها حضور في عوالم محفوظ، ويبدو أن ولادته ونشأته في حي الحسين الشعبي وفي الجمالية قد ألقيا بظلالهما على إنتاجه؛ فظهر هذا جليا في اتخاذه الحارة إطارا مكانيا لبعض أحداث رواياته، ومن الشخصية التي تقطنها فاعلا صانعا ومحركا لتلك الأحداث.. وقد انعكس انتماء محفوظ للطبقة الوسطى على تأليف ثلاثيته الشهيرة التي جعلت من المجتمع المصري في الفترة من نهاية الحرب العالمية الأولى حتي قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية محور أحداثها من خلال أسرة متوسطة الحال هي أسرة السيد أحمد عبد الجواد.. ولعل التركيز على هذه الطبقة هو في الأساس حيلة فنية أراد كاتبنا من خلالها أن تكون بمثابة موقع وسط تطل منه عين المبدع ومن ورائها عين المتلقي على واقع المجتمع المصري على اختلاف شرائحه في فترة زمنية محددة؛ فلا شك في أن الموقع الوسط يعطي للعين الناظرة قدرة على الرؤية في كل الاتجاهات بوصفها تشغل مركز الدائرة؛ لذا فلا عجب عندما تقرأ الثلاثية أن تجد فيها النقيضين يجتمعان في الشخصية المصرية عموما؛ فإذا نظرنا خارج نص محفوظ الروائي نجد أن الشخصية المصرية عموما على الرغم من هيمنة المحتل الأجنبي عليها فإن ذلك لم يمنعها من أن تواصل نشاطها بحرية في الانفتاح على العالم الخارجي والأخذ من ثقافته، فكان عدد ليس بالقليل من أفراد الطبقة المتوسطة حملة لمشاعل التنوير في النصف الأول من القرن العشرين، أمثال: عباس العقاد، مصطفى لطفي المنفلوطي، عبد الرحمن شكري، إبراهيم عبد القادر المازني، مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، أحمد زكي أبو شادي، توفيق الحكيم.. وغيرهم.
ومن الواضح أن نجيب محفوظ بهذه الرؤية قد حرص على أن يكون في موقع وسط شبه محايد بين تيارين احتدم بينهما صراع عنيف في معظم فترات القرن العشرين والقرن التاسع عشر السابق عليه: تيار يسمي أفراده أنفسهم بالمجددين الداعين للارتباط بالغرب وما فيه، وتيار محافظ قراءته للوافد الثقافي من عند الغرب لم تمنعه من التمسك بالقديم والاتباط الشديد به بوصف ذلك دفاعا عن الهوية، فجاءت روايات محفوظ الواقعية لتضعه في موقف العارض الواصف الذي يتظاهر بأنه لا ينحاز لجانب بعينه.
ويتمتع أدب نجيب محفوظ بقدرة على الخروج من نطاق المحلية الضيق ليصل الى العالمية, وذلك نابع من قدرته على التعبير عن هموم الإنسان بصفة عامة على اختلاف زمانه ومكانه, لكن من منطلق محلى؛ فحارة نجيب محفوظ المصرية وشخصياته التى تؤدى أدوارها بأسماء عربية ومن خلال منطلقات تنتمى إلى البيئة الثقافية المحلية والإقليمية تتجاوز معانيها المباشرة لتصبح الحارة ومن فيها رمزا لكوكب الأرض الذى تعيش عليه الأسرة الإنسانية جميعها تنجز أفعالاً وتقيم علاقات فيما بينها, هكذا أراد الإنسان العالمى الساكن فى روح نجيب محفوظ المبدعة أن يقول لنا فى أعمال مثل " حكايات حارتنا " و" أولاد حارتنا".
وهذا الإنسان هو ذاته الذى يحدثنا فى "حديث الصباح والمساء" من منا لم يشاهد هذا العمل تليفزيونيًا؟ أحمد ماهر فى شخصية " يزيد المصرى ", ليلى علوى فى شخصية " هدى اللوزى ", توفيق عبد الحميد فى " عزيز يزيد المصرى" محمود الجندى فى " الشيخ معاوية القليوبى ", عبلة كامل فى " جليلة الطرابيشى".
إننا فى هذا العمل أمام مجاز مرسل ـ إذا أفدنا من أحد مصطلاحات علم البلاغة ـ لقد أطلقنا الجزء " الصباح والمساء " وأردنا الكل (الزمن/ الحياة), إن الصباح والمساء يشكلان يوما له بداية ونهاية, هذا اليوم هو صورة مصغرة لعمر الفرد .. ولعمر الحياة كلها..
والقارئ لهذا العمل يجد صاحبه قد قسمه إلى شخصيات مرتبة حسب حروف الهجائية العربية بدءاً من حرف الألف وشخصية " أحمد محمد إبراهيم " وانتهاء بحرف الياء وشخصية " يزيد المصرى ".. والملاحظ على هذا الترتيب أنه لايتماشى وترتيب زمن ظهور هذه الشخصيات؛ فنحن فى " حديث الصباح والمساء" أمام أسرة مصرية كبيرة العدد تم تناولها من خلال خمسة أجيال بدءاً من بداية حكم محمد على .. حتى عقد الثمانينيات من القرن الماضى , أولها ظهوراً شخصية يزيد المصرى التى عاشت فترة سقوط خورشيد باشا وتولي محمد على حكم مصر .. واللافت للنظر أن الأول من حيث ترتيب الزمن قد جاء آخراً فى ترتيب الشخصيات داخل عالم الفن ..
نحن إذاً أمام أبجدية سردية تأتى بموازاة حقبة زمنية تعبر عن مصر الحديثة التى ولدت مع دخول الفرنسيين إلى مصر وبدأت فى النمو مع حكم محمد على فى القرن التاسع عشر ..
نحن إذاً أمام بناء حكائى يجمع فى تقنياته بين فن القصة القصيرة وفن الرواية؛ فتحت كل حرف هجائى تستطيع أن تقرأ قصة قصيرة خاصة بالشخصية .. أما ما يجمعها بغيرها فى الحروف الهجائية الأخرى فقد اعتمد راوى نجيب محفوظ بدرجة أساسية على روابط بديهية منطقية معروفة لدى الجماعة الإنسانية بصفة عامة مثل : الأب , الأخ , العم , الخال , الابن , ابن العم , بنت العمة .. الخ.. ومن ثم يصير الحرف الهجائى فى هذا العمل بمثابة فضاء للمكان يحمل بداخله قصة صغيرة أو أكثر لشخصية أو لعدد من الشخصيات لتتجمع كلها فى النهاية عند فضاء إنسانى واحد هو " الأسرة " التى يأتى فى مقدمتها شخصية يزيد المصرى الواقعة فى آخر العمل مما يعطي للزمن شكلا دائريا في إشارة فنية واضحة بأن الأحداث ستعيد تشكيل نفسها من جديد, لكن فى أزمنة جديدة وبشخصيات مختلفة بما يتفق تماما ورحلة الحياة القائمة على الحركة داخل الزمن..
إذاً فنحن من خلال هذه الأبجدية السردية أمام بنايات ثلاثة: بناء اللغة, بناء الحكاية, بناء الحياة, وفلسفة الربط بينها تبدو واضحة؛ فلا حياة للذات الإنسانية المفطورة على التواصل بغير اللغة, والحياة فى جوهرها هى بناء مركب من آلاف الحكايات نعيشها بأنفسنا ونقرؤها أو نسمع عنها لنشبع حبا فطريا بداخلنا يعتمد على الحركة بحثا عن ذواتنا فى العالم من حولنا وعن الخفي والمجهول بالنسبة لنا, وتكتسب هذه الرحلة قيمتها بقدر ما تضيفه إلى رصيدنا المعرفي من خبرات..
وبين أبجدية التاريخ و أبجدية اللغة يسكن كل من الأصفهانى ونجيب محفوظ؛ فكلاهما ينشد العالمية فى عمله, الأصفهانى أراد أن يقدم ما يشبه سيرة إنسانية عامة برموز و شخصيات عربية بدأت بأبى قطيفة الشاعر, وقد اتخذت هذه السيرة من موضوع هيمن على الواقع الإجتماعى و الثقافى فى زمن الأصفهانى مادة لها ألا وهو الغناء, كذلك حاول نجيب محفوظ أن يفعل من خلال هذا المجاز المرسل الحكائى الذى يحمل عنوان " حديث الصباح و المساء" لقد أطلق الجزء أسرة يزيد المصرى التى عاشت فى عالم الحكاية زمن مصر الحديثة و أراد الكل ممثلا فى وجهة نظره تجاه الإنسان الموجود فى هذا العالم التى تحولت إلى رموز أسكنها عوالمه الفنية.. كما أن العملين يتقاربان فيما بينهما من حيث الشكل التأليفى, فالأغانى موسوعة حكائية تتكون من عدد من التراجم (الحكايات الكلية) التى تترابط من خلال وحدة الراوى ووحدة الموضوع (الغناء) الذى يعد بمثابة الرحم الحاضن لها, كذا الحال مع رواية نجيب محفوظ فهى بناء مركب من مجموعة من الحكايات الصغيرة التى تتماسك دلاليا فيما بينها بفضل وحدة الأسرة ذات المعجم الواحد المكون من أب و أم و أخ و عم .. إلخ, فاستعان راوى محفوظ إزاء هذا المعجم بمعجم آخر هو معجم اللغة المعتمد فى تصميمه على حروف الهجاء..
إذاً فإن كلا من الأصفهانى و محفوظ قد اعتمد فى إبداعه على ما يمكن تسميته بمنهج "الوحة التركيبية" الذى تحدث عنه د. عبدالمجيد إبراهيم فى موسوعة " الوسطية العربية:مذهب و تطبيق" و فيه تتمايز أجزاء العمل بحيث لا يذوب أحدها فى الآخر, لكنها فى الوقت ذاته تتجاور وتترابط لتشكل فى النهاية الكل الواحد.

- على الجارم: ذاك الكلاسيكى الثائر
هو صوت خصص نفسه فى فنين من فنون الأدب: الشعر والرواية، شهد ميلاده فترة شديدة الحساسية فى تاريخ مصر الحديث؛ فقد ولد فى سنة 1881 م, أى الفترة التى شهدت ثورة عرابى والبارودى ورفاقهما على فساد أوضاع داخلية فى مصر وضعف أمام تدخل أجنبى انتهى باحتلال انجلترا لها .. ولا شك في أن واقعا متوترا كهذا سيترك أثره فى تكوين هذا الصوت؛ فعلى الجارم الشاعر الذى اهتم بكتابة الرواية يعد حلقة فى سلسلة أدباء وكتابات ركزت على استدعاء التاريخ فى إبداعاتها القصصية ؛ فعندما نذكره يستدعى الذهن: محمد فريد أبو حديد , محمد سعيد العريان, على أحمد باكثير, عبد الحميد جودة السحار, ومن قبلهم جرجى زيدان الذى اختار من التاريخ الإسلامى أحداثا تكون حبكات لرواياته، فأنتج: العباسة, الأمين والمأمون, شجرة الدر, أرمانوسة المصرية، ومن قبل زيدان كان رفاعة الطهطاوى فى النصف الأول من القرن التاسع عشر الذى طرق باب التاريخ - بعد أن طرق باب الغرب - ليأخذ منه مادة تصلح لكتابة قصصية فأبدع " غاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز " ..
كل هؤلاء حاولوا أن يكتبوا الرواية التاريخية التى تقوم على اقتناص حدث من مرحلة تاريخية معينة لم يعد لها وجود أو شخصية غابت عن زمننا ليتم بعثها من جديد من خلال شخصيات تاريخية ذات شهرة - غالبا - وشخصيات موضوعة يبتكرها الكاتب ويحملها بما يحيى فى خاطرنا صورة العصر المراد بعثه بأبعاده المختلفة: النفسية والسياسية والاجتماعية .
وعلى الجارم أحد الكتاب المصريين الذين شغلوا أنفسهم بقضية الهوية فى النصف الأول من القرن العشرين؛ فوطنه يقع تحت هيمنة احتلال أجنبى وجد البعض فى قوته غواية تقنعهم بضرورة الارتباط الكامل بالوافد من عنده حتى لو أفرز هذا الارتباط نوعا من التمرد والانفصال عن الجذور, فكان على الجارم ورفاقه محمد فريد أبو حديد, ومحمد سعيد العريان, وعلى أحمد باكثير بمثابة رد الفعل الذى اتخذ من عالم الحكاية منبرا يحتفى بهذا الصوت المضاد, وهو ما يأخذنا إلى مدرسة الإحياء والبعث أول مدرسة شعرية تظهر فى أدبنا العربى الحديث وكانت الوجه الأدبى لثورة عرابى وأتباعه التى أخذت طابعا عسكريا؛ لقد احتفت هذه المدرسة على يد مؤسسها محمود سامى البارودى ومن بعده أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وأحمد محرم .. وغيرهم بالنماذج الأدبية المضيئة فى تراثنا العربى وآلت على نفسها مهمة محاكاتها على مستوى الشكل والتجربة بما يعد إعادة بعث لها من جديد إلى واقع شهد الأدب فيه حالة من الجمود , ويعد صنيع البارودى وأتباع مدرسته بمثابة الرافد الشعرى لهذه المدرسة الكلاسيكية التى جاء بموازاتها رافد آخر (نثري) أقامه على الجارم ورفاقه من خلال استلهام التراث فى التعبير عن واقع معاصر..
وقد ركز الجارم فى بعض أعماله الروائية على استدعاء شخصيات من التاريخ اهتمت بإبداع الشعر مثل: أبو فراس الحمدانى، والمتنبى, والمعتمد بن عباد , ولعل صوت الشاعر الساكن فيه كان له دور فى هذا الاختيار؛ فقدم لنا المتنبى فى عملين: " الشاعر الطموح " و" غاية المطاف" وأبو فراس الحمدانى فى رواية " فارس بنى حمدان " والمعتمد بن عباد الأندلسى فى رواية " شاعر ملك "..
ويحرص كاتب الرواية التاريخية بصفة عامة على إسقاط مشكلات عصره على جو الرواية سواء أكان ذلك بوعى تام أم بدرجة أقل, المهم أن مادة التاريخ المستدعاة هى فى كل الأحوال رمز يشير إلى وجهة نظر الكاتب تجاه الواقع الذى يحياه فى وعاء فنى يلتقى فيه الحقيقى بالخيالي ..
وعلى الجارم ورفاقه يمثلون بهذه الطريقة الرافد النثرى لمدرسة الإحياء والبعث التى يمكن القول عنها: إنها التيار الكلاسيكى الذى كان يتحرك فى فضائنا الثقافى منذ العقدين الأخيرين فى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين برافدين أدبيين: شعرى ونثرى (حكائى) ليكون الصوت المضاد المدافع عن الهوية بإزاء أصوات أخرى يمكن نعتها بالمستغربة ..
وفى رواية مثل " شاعر ملك " نستطيع أن نربط فى تأويلنا لها بين الفترة التى ظهرت فيها والشخصية التى تحكى عنها؛ لقد صدرت هذه الرواية فى الأربعينيات من القرن الماضى عندما كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها, وكانت هناك نداءات تدعو إلى توحيد الشعوب العربية التى مزقها الانقسام وهيمنة الأجنبى فى منظمة واحدة تجمعها؛ فكان ذلك أساسا لظهور " جامعة الدول العربية" .. ورواية شاعر ملك تتحدث من خلال اللغة فيما يشبه لوحات وصفية متتابعة لكل لوحة عنوانها الخاص عن شخصية شاعرة تولت زمام الملك فى بلاد الأندلس هى المعتمد بن عباد, وكان ذلك فى عصر ملوك الطوائف الذى شهدت فيه الجماعة العربية هناك واقعا مأزوما بحكم الانقسام الذي أدى إلى ضياع أول جزء من إمبراطوريتها هناك ألا وهى " طليطلة " فكان ذلك السقوط بمثابة نداء تحذيرى لها .. اتخذ على الجارم من مشهد الأزمة هذا أساسا يقيم عليه عالمه الفنى فى هذه الرواية فى إشارة رمزية إلى سياق الواقع الذى يحياه , وقد جعل الجارم من المعتمد بن عباد عينا يطل منها القارئ على هذه الحقبة التاريخية المتوترة, ثم بعد ذلك يأتى فعل القراءة المعتمد على المقارنة بين الماضى المُستدعى والحاضر المعاش ..وتبدأ هذه اللوحات عند الجارم بـ" ليلة " تشير إلى ميلاد بطل روايته .. وتنتهى بـ " أفول " يقدم فيها مشهد النهاية, نهاية هذا الشاعر الذى صار ملكا ومعه دولته ..
وهذا الطابع الوسطى فى كتابة الرواية التاريخية الذى يجعلها تجمع بين الحقيقى والمتخيل يقربها ـ بدرجة ما ـ من طبيعة الخبر القصصى فى تراثنا العربى؛ فآلية تشكيله تمنحه هذا الالتقاء.. أنت نفسك إذا طلب منك كتابة مقال سردى تقدم فيه فكرة ترتبط بحدث وقع لك أو لغيرك فإن تأثير هذا الحدث فيك ربما سيدفعك إلى تجنب روايته بطريقة حرفية وستفضل إعادة صياغته وفق مزاجك الفكرى والنفسى الخاص..

- إحسان عبدالقدوس: ذاك الرومانسى الحالم .
من التيار الكلاسيكى إلى التيار الرومانسى ينطق صوت ممثلاً له هو إحسان عبد القدوس, فى كثير من الأحيان يكون ذكر إنسان بمثابة مفتاح نفتح به على عوالم وشخصيات أخرى بينها وبينه صلة من نوع معين؛ فعندما نقول إحسان عبد القدوس سنذكر إنتاجه السردى فى قصص الحب ورواياته, سنتحدث عن نظير له اسمه يوسف السباعى صاحب " رد قلبى" .. و" العمر لحظة".. سنتحدث عن محمد عبد الحليم عبد الله في "بعد الغروب" و"غصن الزيتون"
إحسان عبد القدوس هو الآخر نموذج للمثقف المهموم بقضايا واقعه لكن على طريقته الخاصة؛ فنظرته له تقوم على منطلق رومانسى؛ لقد ولد هذا الصوت فى العام 1919 م عام الحركة الوطنية .. وفى عام 1942 م أنهى دراسته بكلية الحقوق, اتجه بعد عمله بالمحاماة مدة من الزمن إلى العمل الصحفى محررا فى مجلة الأم "روزاليوسف " .. هو واحد من المقربين من ثورة يوليو, تأثر بها وظهر ذلك فى أحد أعماله الروائية " فى بيتنا رجل ".. هذا العمل يعد مثالا على كاتب جمع بين الواقعية والرومانسية؛ ففيه جاءت عاطفة الحب بين الرجل والمرأة منطلقا رومانسيا لتناول سياسى اجتماعى يركز على قضية التحرر والاستقلال, إن البيت فى روايته هذه يعد وعاء رمزيا حاملا لفكرة الوطن كما يراها, هذا الوطن بحاجة إلى راعٍ يفتح بابه المغلق وينهى غربته , بداخل هذا البيت امرأة هى مستقر هذا الراعى وسكنه , والتركيب " فى بيتنا" خبر مقدم وجوبا، أما كلمة رجل فهى مفردة تعبر عن مبتدأ تأخر وجوبا, هذا التشكيل النحوى يعد دلالة رمزية تقول: إن بقاء الأوطان وحمايتها يجب أن يتقدم على بقاء الأفراد, والمصلحة الحمعية يجب أن يكون لها الأسبقية فى سلم الأولويات إلى جانب المصلحة الفردية ..
وإحسان عبد القدوس رومانسى حالم ينظر إلى الواقع كما يحلم به ويتمناه؛ ومن ثم فإن بينه وبين الواقع الحقيقى مسافة نستطيع أن نلحظها من خلال كلماته الآتية " أفكاري ولدت معى, وهى ترفض الاستسلام للواقع متطلعة إلى المستقبل، ترفض القديم، ترفض التقيد بالتقاليد، ترفض الخوف الاجتماعى" إحسان عبدالقدوس " , أيام شبابى, ص15، طبعة 1997م, الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة .
هذا الرفض عند إحسان يتحول إلى نفى على المستوى الفنى تعكسه بعض أعماله الروائية مثل: "لا أنام", "حتى لا يطير الدخان", "لا شئ يهم"، "لن أعيش فى جلباب أبى".. وإلى جوار هذا النفى المذكور صراحة هناك نفى غير مباشر نجده فى أعمال مثل: " الطريق المسدود " و" أنا حرة " وقصة "بعيدًا عن الأرض"..
وهذه القصة الأخيرة كتبها إحسان فى الخمسينيات من القرن الماضى لهدف سياسى؛ فقد أراد أن يثبت من خلالها أنه ليس هناك عداء طبيعى بين الأديان, لكن المنظمات السياسية هى التى تشعل هذا الصراع ..
وترتبط الفكرة المحورية للقصة ببطل مؤنث هو المرأة " نوال " تمر بتجربة حب مع أحد الرجال هو " عادل " تنتهى هذه التجربة بزواج لا يستمر فتقرر الرحيل إلى بلد آخر، وفى رحلتها يجمعها القدر برجل ثان اسمه "أحمد عزمى" يحدث بينهما تقارب, لكنها تكتشف أنه متزوج بأخرى وعنده أولاد فتقرر الابتعاد والعودة من جديد .. وقد بدأت القصة بهذا التركيب على لسان البطل نوال "لا أدرى" ..وانتهت بمنطوق لها أيضا " يارب أريد أن أدرى كيف أعيش على الأرض " انظر القصة كاملة من ص 14 إلى ص44، طبعة 1998م , دار أخبار اليوم , القاهرة .
إن القصة تشير إلى واقع متأزم حاول البطل الابتعاد عنه, هذه الأزمة ترتبط بمحور ذكورى يقوم على شخصيتين هما عادل وأحمد عزمى اللذان يمثلان عالما معيبا اكتشف البطل مواطن خلل فيه, فقرر الانسحاب منه.. ومن الواضح أن البداية والنهاية فى القصة يتماثلان من حيث دلالتهما, إن نوال فى البداية لا تدرى وفى النهاية تتوجه بخطاب تساؤلى يعبر عن قدر من العجز عن التعايش مع الواقع على ما فيه .. واستمرار الحالة النفسية للبطل "نوال" كما هى يخفى وراءه وجهة نظر إحسان عبد القدوس ذاتها؛ فهو يقول فى مذكراته " إن فكرى لم يتغير حتى اليوم, ربما لأن كل ما اقتنعت به فى شبابى وعشت مقتنعا به لم يتحقق حتى اليوم" أيام شبابى, ص15.
وكأن رحلة " نوال" فى بعيدا عن الأرض تمثل معادلا فنيا لرحلة إحسان عبد القدوس فى الزمن وفى واقعه, اكتشف خلالها بقاء الواقع على حاله, هذا يعنى أن النزعة التساؤلية الكامنة بداخله ستظل كما هى؛ فذات إحسان الرومانسية تساءل واقعها باحثة عن الروح المثالية إن كانت موجودة فيه , لكن الواقع باستمرار يجيبها بالنفى ..
وإحسان عبدالقدوس ومن على شاكلته يمثلون الرافد النثرى (الحكائى) لمدرسة الرومانسية الشعرية التى ظهرت فى أدبنا العربى الحديث تالية من حيث الزمن على الكلاسيكية أو الإحياء والبعث , وقد كان من مؤسسيها الأوئل خليل مطران الذى لقب بشاعر القطرين، وفى مصر رواد مدرسة الديوان: العقاد وشكرى والمازنى , ثم أصحاب جماعة أبوللو: أحمد زكى أبو شادى، إبراهيم ناجى وعلى محمود طه .. وفي المهجر جبران خليل جبران .. وقد كانت المرأة بأبعادها الرمزية وفعل الرحلة القائم على الابتعاد هما أجنحة هذا الرومانسى التى يحلق بها فى إبداعه متخذا منه جزيرة يسكنها ليطل منها على الواقع الموجود على مسافة منه ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق